عادت التجاذبات الدولية تضغط بقوة على المنطقة العربية - الإسلامية بعد فترة راحة اتسمت بشيء من الهدوء والتفاوض وإعادة القراءة. الآن أخذت تظهر في الأفق بوادر أزمات يرجح أن تقود ثلاثة مواقع إلى مزيد من التشنج والانقسام وربما الاصطراع السياسي والأهلي. والمواقع الثلاثة هي العراق وفلسطين ولبنان. فهذه البلدان الثلاثة تعتبر حلقات مترابطة على رغم خصوصية كل وضع، ولكنها في النهاية تجتمع على قانون موحد يعكس تلك التجاذبات الدولية التي تضغط بقوة على مراكز القوى الإقليمية.
ومن خلال مراقبة الحركة الدولية يمكن ملاحظة الأمور الآتية: حشود عسكرية أميركية برمائية (برية/ بحرية) في الخليج والعراق. بداية تفاهم دولي على صيغة قرار يصدر عن مجلس الأمن بشأن فرض عقوبات على إيران. بدء استقرار الإدارة الأميركية على قواعد جديدة في التعامل مع الأزمات بعد اهتزاز صورة «البيت الأبيض» بسبب الصفعة التي تلقاها الرئيس جورج بوش في الانتخابات التشريعية النصفية. بدء وضوح الرؤية الأوروبية التي اتسمت بالتشوش نتيجة اختلاف وجهات النظر بشأن قضايا «الشرق الأوسط».
هذه الحركة الدولية تكشف عن وجود تحولات، ولكنها ليست دراماتيكية وخصوصاً في النقاط المتعلقة بالمواقع الثلاثة: العراق، وفلسطين، ولبنان. فأوروبا تقترب من أميركا، وأميركا تقترب من روسيا وروسيا متفاهمة جزئياً مع الصين ومتوافقة جزئياً مع أوروبا وأميركا... وهذا يعني أن الاتجاه العام أخذت يتركز على قواعد مستقرة دولياً، ولكنها ضاغطة على المنطقة العربية/ الإسلامية. فالاستقرار الدولي لا يعني بالضرورة استقرار مشكلات «الشرق الأوسط» بل يعني أحياناً رفع درجة التجاذب الإقليمي بهدف التوصل إلى صيغ تفاهمية تعيد توزيع نسب المصالح بأسلوب يتوافق مع الوظائف والأدوار.
مثلاً التوافق الدولي على صيغة قرار بشأن العقوبات على إيران يعني المزيد من الضغط على طهران. والحشد العسكري في الخليج يعني استتباعاً تركيز الضغط على إيران وتوجيه رسالة قوية ضد دورها الإقليمي في العراق وفلسطين ولبنان.
أيضاً التوافق الديمقراطي - الجمهوري على سياسة موحدة بشأن العراق وفلسطين ولبنان يعني أن إدارة بوش استقرت على استراتيجية جديدة، ولكنها ليست مختلفة جذرياً عن سياسته التقويضية السابقة. فالحزب الديمقراطي يختلف عن الجمهوري في التعامل مع الملف العراقي، ولكنه أكثر شراسة وتشدداً بشأن التعاطي مع الملف الإيراني. كذلك لا يختلف كثيراً الديمقراطي عن الجمهوري في الموضوع اللبناني حتى لو تعارضت وجهات نظرهما بشأن نسبة الدور الذي يجب أن تلعبه سورية في ساحات لبنان والعراق وفلسطين. فالاختلاف على حجم دور دمشق الإقليمي لا بعني بالضرورة أن الديمقراطي يغامر في موضوع العراق أو يضحي بلبنان أو يتخلى عن تحالفاته التقليدية في الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي.
وما ينطبق من تحليل ومقارنة بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري يمكن رؤية الوجهة نفسها في حال سحب التحليل والمقارنة بين أميركا وأوروبا. فالخلاف بين القارتين كبير، ولكنه لا يصل إلى درجة الانقطاع وتغليب طرف على آخر حتى لو كان على حساب المصالح والمواقع الاستراتيجية. مثلاً أوروبا في غالبيتها عارضت الحرب على العراق، ولكنها الآن لا توافق على تقديم بلاد الرافدين هدية مجانية لقوى تعتبرها متخالفة مع رؤيتها ونظرتها. كذلك تميل أوروبا (كالحزب الديمقراطي) إلى إعطاء دور إقليمي لسورية وإيران، ولكنها لا تذهب بعيداً في هذا المنحى إلى درجة التضحية بمواقعها في بغداد وبيروت. فأوروبا تدعم لبنان في حال تعرض لمخاطر التقسيم والتشطير والتقويض حتى لو كانت تتفهم المخاوف أو الحاجات السورية. وموقف الحزب الديمقراطي لا يختلف كثيراً عن السياسة الأوروبية. فأوروبا في النهاية لا تستغني عن لبنان إلا بشروط قاسية وتنازلات قوية وضمانات دولية وعربية. وهذا أيضاً موقف الحزب الديمقراطي. وبهذا المعنى يرى بوش أن بإمكانه التوصل إلى حلول وسطى داخلياً مع الحزب الديمقراطي ودولياً مع أوروبا تشكل نقطة توازن تضمن المصالح الاستراتيجية للقارتين. والتفاهم الأوروبي - الأميركي يسمح للقوتين ببناء نوع من التوافقات مع الصين وروسيا وهذا ما يمكن ملاحظته من مجموع خطوات تتصل بموضوع العقوبات على إيران أو مسألة «المحكمة ذات الطابع الدولي» في لبنان.
هذه التجاذبات الدولية قد تسعف على إنتاج نوع من الاستقرار بين مراكز القوى العالمية. ولكن الاستقرار الفوقي يعني تجاذبات حين تبدأ التوافقات بالهبوط من الأعلى إلى الأدنى وتأخذ بالنزول على الأرض وما يعنيه النزول من تجاذبات سياسية بين القوى المتخالفة كما هو حاصل بين فتح وحماس في فلسطين و«8 و14 آذار» في لبنان.التفاهمات الدولية تعني تجاذبات. والتجاذبات الفوقية تنعكس تحتياً في سلسلة اضطرابات يرجح أن تشهدها ساحات العراق وفلسطين ولبنان.
ضغوط محتملة
كيف يمكن قراءة انعكاس التجاذبات الدولية الفوقية على خريطة «الشرق الأوسط» وتحديداً العراق وفلسطين ولبنان؟
نبدأ بالعراق بصفته يمثل الملف الأهم ويتمتع بالأولوية بالنسبة للسياسة الأميركية. بوش فعلاً في ورطة فهو يواجه مشكلة إذا استمر في الاحتلال، وهو يواجه مشكلة إذا قرر الانسحاب، كذلك لا يستطيع التخلص من المشكلة إذا تنازل عن العراق لمصلحة دول الجوار أو المراكز الإقليمية ذات النفوذ الخاص في بلاد الرافدين. هذه الورطة التي أوقع بوش الولايات المتحدة فيها تتطلب منه الاستعانة بالحزب الديمقراطي وأوروبا للخروج منها. والخروج لا يعني دائماً الانسحاب الفوري والهرولة العسكرية وإنما قد يتجه نحو منافذ أخرى ربما تؤدي إلى مزيد من التأزيم أو رفع نسبة الضغوط (العقوبات) على إيران وأيضاً الضغط على سورية من خلال تشريع المحكمة الدولية في لبنان. المساعدة الديمقراطية والأوروبية قد تصب في اتجاه معاكس وتزيد من تشدد الموقف الأميركي في حال وجد بوش ضمانات داخلية وتسهيلات أوروبية تحت سقف التفاهم الدولي مع موسكو وبكين.
وفي موضوع فلسطين تبدو الأمور تسير في اتجاه لا يؤشر إلى وجود سياسة جديدة تلغي الثوابت الأميركية/ الأوروبية في دعم «إسرائيل» وتنظيم العلاقة مع قوى فلسطينية مقبولة دولياً. فالحزب الديمقراطي لا يتعارض كثيراً مع الجمهوري في سياسة دعم العدوان الإسرائيلي كذلك أوروبا التي تتفهم حاجات الشعب الفلسطيني لم تصل بعد إلى طور يسمح لها باستبدال تحالفاتها التقليدية لمصلحة القضية الفلسطينية.
يبقى الموضوع اللبناني وهو الأكثر تداخلاً وتعقيداً وربما ستشكل ساحته ذاك المجال المفتوح على التفاهم والاقتسام. من الناحية المبدئية يقف الديمقراطي مع لبنان ضد سورية، وكذلك تتخذ أوروبا الموقف نفسه فهي تميل تقليدياً إلى النظام اللبناني ولا ترتاح لذاك النظام القائم في دمشق. هذا مبدئياً أما تفاوضياً فيمكن أن تقبل أميركا وأوروبا في التضحية بجزء منه إذا كان هذا يضمن مصالح «إسرائيل» وينتج صيغة أمنية تريح حدودها في الجنوب اللبناني.
الأخذ والرد في الساحة اللبنانية مسألة مفتوحة على احتمالات سلبية وايجابية والسبب هو أن أوروبا وأميركا تتجهان إلى دعم «إسرائيل» إذا كانت المفاضلة بين بيروت وتل أبيب. وهذه مشكلة لبنان التقليدية مع أوروبا والولايات المتحدة. فأميركا وأوروبا مع لبنان ضد سورية ومع «إسرائيل» ضد لبنان. وبين الضد الأول والضد الثاني كان لبنان يدفع ثمن المساومة بين سورية و«إسرائيل». وجوهر المساومة يعتمد المعادلة الآتية: تل أبيب ترفض الانسحاب من الجولان وتوافق على أن يكون لبنان هو التعويض مقابل ضمانات أمنية كالضغط مثلاً على حزب الله ومحاصرته وتطويعه في تسويات طائفية/ مذهبية محلية. دمشق لا تستطيع تحرير الجولان عسكرياً وفشلت في استعادته سياسياً أو دبلوماسياً لذلك فهي لا تمانع أن يكون لبنان جائزة ترضية مقابل ضمان استقراره ومنع زعزعة الأمن القومي لسورية. والسؤال هل تعاود أميركا وأوروبا إلى صيغة تسوية تشبه تلك التي تم التفاهم عليها في العام 1976 أم أن المتغيرات الدولية والإقليمية أصبحت الآن تشكل عوائق وحواجز تمنع تكرار تلك الصفقة؟
الظاهر في المشهد الخارجي أن الصورة تغيرت، ولكن هذا لا يعول عليه خصوصاً أن هناك الكثير من الأوراق لم تلعبها دمشق مثل رفع درجة الضغوط على لبنان وصولاً إلى الفوضى العامة. فالمشهد الخارجي المتمثل في إطلاق تصريحات كلامية من أميركا وأوروبا تكرر الدعم لحكومة لبنان لا يعني الكثير وإنما أحياناً يدل على وجود مؤشرات معاكسة خلف الكواليس.
حتى الآن القنابل الدخانية تمنع توضيح معالم الطرقات، ولكن التجاذبات (التفاهمات) الدولية تعني المزيد من تأزيم الساحات الإقليمية في المنطقة العربية/ الإسلامية. وأساس التأزيم يبدأ في العراق وينتهي في فلسطين ويمر بالضرورة في لبنان. فهل يكون لبنان هو الضحية وتبدأ أوروبا بالتعاون مع الولايات المتحدة بالتخلي عنه في إطار تفهم المخاوف والحاجات السورية ام تستغني عنه ضمن شروط قاسية وضمانات دولية لا تلغي الدور العربي فيه؟ الحزب الديمقراطي وأوروبا وإدارة بوش يجمعون على التأكيد أن لبنان ليس ورقة للتسوية، ولكن الكلام المعلن لا يعكس دائماً حقيقة التوجهات وخصوصاً إذا كان الطرف الآخر المعني بها مباشرة دولة تدعى «إسرائيل»?
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1567 - الأربعاء 20 ديسمبر 2006م الموافق 29 ذي القعدة 1427هـ