الشيخ عبدالأمير بن منصور الجمري (رحمه الله) لم يكن أبداً زعيماً طائفياً يقف على رأس طائفة كريمة، أو فقيهاً مذهبياً قابلاً للانكفاء والتحجيم في إطار مذهب جليل له اعتباره في التراث العربي والإسلامي كما أشاعت ذلك للأسف بعض وسائل الإعلام الإقليمية ساعة إعلان الخبر الفاجع.
بل لا يمكن لك أن تذكر طيب أثر هذا العلامة الواسع العلم والاطلاع الذي أكسبه ذوقاً ثقافياً راقياً وسلوكاً حضارياً متسامحاً مع جميع أبناء الوطن، من دون أن تتطرق إلى أبرز مآثره في دنيا النضال السياسي الوطني التي لا أظن لأحدٍ في البحرين أن يختلف بشأن ما كان ينادي به سيد المجاهدين وشيخ المناضلين (طيب الله ثراه) من إصلاح لذات البين السياسية بين الحكام والمحكوم، والمواطن وقائد الوطن، وذلك عبر سلسلة من التحركات المطلبية التاريخية ورفع العرائض السياسية النخبوية والشعبية بمعية عدد من أبرز الشخصيات الوطنية.
عند التأمل في معاني ومغازي ذلك التشييع الأسطوري، وتلك الوقفة الشعبية المعزية التي يستحقها شيخ المناضلين، كما أطلق عليه هذا اللقب الوالد المناضل الوطني عبدالرحمن النعيمي، فإن أكبر إجحاف وجناية بحق مسيرة النضال الوطني التي تزعمها الشيخ الجمري خلال العقدين الأخيرين، هو السكوت على التطاول، سواء أكان عن عمد أم من دونه، على هذه المسيرة عبر حصرها في زاوية طائفية ضيقة، على رغم الإجماع الوطني على قيمها ومبادئها العامة، كما دأبت على ذلك بعض وسائل الإعلام بما فيها تلك الجهات «شبه الرسمية» المعروفة.
وأكرر مرة أخرى لا أظن أن هناك بيننا مواطنين أحراراً ذوي كرامة وطنية وطموحات حضارية راقية ممن لا يتفق مع ما طرحه أبو جميل، وقبله أجيال من شخصيات نضالية وطنية، لايزال يطويها غبار النسيان والإجحاف، والتي سبق أن طالبت منذ مطلع القرن الماضي بالمطالب الجوهرية ذاتها، التي تهدف إلى تكريس الحرية والمساواة وإصلاح ذات البين سياسياً، وتصحيح العلاقة بين الحاكم والمحكوم في صيغة حضارية وطنية تحقق الإنصاف للجميع، وتنقل حلم المواطنين القديم بدولة القانون والمؤسسات والحقوق والواجبات، لا الخضوع لاستغلال تاريخي غير متناهٍ، وتهميش سياسي واقتصادي أدى إلى ما أدى إليه من عقابيل مدمرة ونتائج سلبية اجتماعياً.
فأصبح جراء ذلك المسعى الخطير حضن الوطن الواحد سلة محبوكة برداءة يجري التلاعب بما تحتويه من عناصر، من قبل أعداء الإصلاح السياسي والاقتصادي الحقيقي لذي ينعكس مباشرة على الوضع المعيشي للمواطن.
وعند الحديث عن علاقتي كفرد مهتم بالشأن الوطني العام مع فقيد الوطن والأمة، الشيخ عبدالأمير الجمري، فلا أزال شديد التحسر على ضياع فرصة اللقاء به لأطبع على جبينه المشرق قبلة تبجيل وتوقير من ابن بار.
ولكن يمكنني القول إن أول ما تناهى إلى مسامعي اسم الشيخ عبدالأمير الجمري، كان في أيام الطفولة في منتصف العقد الماضي إبان حوادث انتفاضة الكرامة الوطنية في التسعينات، والتي شهدت للأسف حوادث أليمة في زمن «أمن الدولة» الغابر، من أعمال قمع وتنكيل واعتقالات تعسفية، إلى تخريب للمرافق والممتلكات العامة والخاصة في الدولة، وإثارة للنعرات والحزازات الطائفية والمذهبية السوداء المتبادلة.
وبحكم انتسابي إلى مجتمع مشطر طائفياً، وبصفتي سنياً منتمياً إلى نطاق بيئي قروي ضيق ونائي، فكان كل ما أتذكره في تلك الفترة الأليمة والنضاحة ألماً في صميم الذاكرة الوطنية، هو للأسف تلك الصورة السوداء الرائجة لــ «الانقلابيين» و«المجرمين» و«الحاقدين» و«مهددي الاستقرار العام»، و«أتباع إيران» الساعين إلى إلحاق البحرين بحمى الجارة الطمّاعة، ممن يحملون نوايا إبادية ودعاوى تطهير عرقي! كان ذلك نموذج ما يشاع في تلك الفترة الأليمة، في بيئة سياسية متفسخة وغير صحية، تتفاعل مع محيط اجتماعي منشطر طائفياً لا ينفتح فيها كل جانب على الآخر، ولا أعتقد أن الصورة كانت مختلفة لدى الجانب الآخر في ظل هيمنة دعايات مضادة مدمرة ذات أساليب خاطئة! فتصوروا أنه كان ولايزال البعض ينظر إلى المطالبة بالحياة النيابية وتحقيق الديمقراطية والإصلاحات والتعديلات الدستورية على أنها مطالب طائفية شيعية، ولربما تم اعتبار مطالب الأمان والاستقرار هي الأخرى مطالب سنية طائفية! في حين كاد أن يغيب في المرحلة الغابرة بأجوائها الرهيبة ذاك الحس الوطني الداعي إلى إعلاء كلمة سواء وامضة بين مختلف أبناء الوطن، تلك المرحلة التي ذهب ضحيتها من أبناء الوطن بمختلف الانتماءات العمرية، بمن فيهم السياسيون ورجال الأمن جراء معالجات فوقية خاطئة بين الفعل ورد الفعل للأسف، أدت إلى ما أدت إليه من إثارة للكراهية والاحتقان، وزيادة في تأزيم أزمة عدم الثقة التاريخية.
وربما يمكن القول إنه تم على الأقل تدارك الوضع المأسوي والتمهيد لتصحيحه، والمبادرة بالتفاتة كريمة إلى سيل التضحيات الشعبية الوطنية من عهد المناضل عبدالوهاب الزياني مروراً بالباكر والعليوات وإبراهيم فخرو فعبدالرحمن النعيمي وعبدالأمير الجمري، وذلك من قبل بدايات مشرقة لعهد صاحب الجلالة الملك المفدى (حفظه الله ورعاه) المبشر بتحقيق مصالحة وطنية فعلية قد نشهد بواكيرها قريباً بما فيها من إعادة محاكمة المرحلة السابقة بحوادثها وشخوصها في تسلسل حيادي وموضوعي، بما تتضمنه من فتح الكثير من الملفات والقضايا العالقة والمرتبطة بانتهاكات حقوق الإنسان والمواطنة، وإن كنا نشير هنا إلى رغبتنا الوطنية التي يشاطرنا إياها ويحمل همها الكثير من أبناء الوطن من مختلف الطوائف والانتماءات الأيديولوجية بضرورة استمرار الإصلاحات والمصالحات الوطنية الفعلية التي لا يمكن أن تتدنى إلى مجرد تنفيس للضغط الاجتماعي أو تعتبر تكتيكاً سياسياً ومرحلياً، وإنما هي تضحيات متبادلة لصالح الوطن والمواطنين، كما كان يدعو إليه أبوجميل إبان مسيرته النضالية المليئة بالجراح والآلام والمشقات.
ما ينبغي أن يذكر في مقام كتابة الرثاء الذي نخشى أن يكون قليلاً في حق شيخ المناضلين، هو الدعوة إلى إعادة فتح الذاكرة الوطنية وإنصاف الكثير من الحوادث الوطنية والشخصيات النضالية التي لايزال ذكرها محصوراً في نطاق نخبوي ضيق جداً، أو بمعزل شديد الحذر من أن يتسرب ناحية العمومية المنفتحة، والتي نخص بالذكر هنا تعامل وزارة الإعلام السلبي المخالف لشروط المرحلة الراهنة مع كتاب المناضل عبدالرحمن الباكر بما يشمله من مضامين وطنية رائعة سجلت أسطرها في أراضي الوطن والمنفى! تلك الشخصيات الحية منها والمتوفاة، ربما لم تنل من تكريم واحتفاء على أعلى المستويات، إلاّ بعد أن تنال رحمة الله، وهذا التغييب لذكرهم وأثرهم خسارة كبيرة للذاكرة الوطنية، بدل أن يتم إثراء جوانبها وتعزيز أركانها بالاحتفاء بتلك التجارب النضالية الوطنية الإنسانية.
وختاماً... ونحن في حضرة شيخ المناضلين، فإن ما نود قوله، إنه آن الأوان لهذا المناضل الوطني، أن ينام قرير العين، بعد أن أنهى مسيرته الوطنية الحافلة، وأدى ما عليه من دور كتب له محفوظاً، لتكمل المسيرة من بعده ذريته الصالحة وأبناؤه أبناء الوطن، كما كان يحب أن يخاطبهم?
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 1567 - الأربعاء 20 ديسمبر 2006م الموافق 29 ذي القعدة 1427هـ