نلوم «الوفاق» على مقاطعتها الجلسة الافتتاحية للبرلمان، ونلومها مرةً أخرى على مقاطعتها جلسة توزيع المناصب، فقد ذهبت برجليها إلى الخطأ الذي هربت منه: التهميش والإقصاء. ونتمنى ألاّ تذهب أكثر في سياسة المقاطعة، وتُمعِن في معاقبة الذات بمزيدٍ من السادية فتغيب عن الجلسات التالية، فتسهم في زيادة خلخلة الوضع التمثيلي للكتل، بحيث يصبح أكثر بعداً عن العدالة والمساواة، وتتحوّل كتلتها الأكبر إلى كتلة «مستضعفة» ضائعة وسط زحام الكتل الأخرى.
ونلوم الكتل الأخرى التي حضرت جلسة أمس، وتصرّفت بعقلية: «غاب القط فالعب يا فار»، فما أخطر عقلية الاستئثار بمناطق النفوذ، بعيداً عن روح التوافق والتراضي والبحث عن المصلحة العامة العليا، وخصوصاً أن مشاركة المقاطعين كانت تبشّر بفتح صفحةٍ جديدةٍ من المشاركة الإيجابية للخروج من منطقة الاحتقان.
نلوم «الوفاق» على موقفها الذي خانتها فيه الحكمة، على رغم ما لديها من هواجس ثبتت في كثير من الأحيان صحتها وواقعيتها، ونلوم الكتل الأخرى على موقفها المتسرّع أمس في توزيع الغنائم، وهو موقفٌ خانتها فيه الحكمة أيضاً.
كان لدينا بعض الأمل حتى مساء أمس الأول، وفي الوقت الذي كان يُهال التراب على قبر فقيد الوطن الشيخ الجمري، كان عددٌ من الزملاء من صحف مختلفة على مقربة من القبر، وكان مدار الحديث: هل تتصرّف الكتل الأخرى صباحاً بعقلية «تلاقفوها»، أم تراعي حساسية الظرف الطارئ، وغرق الطرف الآخر في بحر أحزانه برحيل شخصيةٍ تاريخيةٍ مؤثرةٍ من حجم الشيخ الجمري؟
ما حدث للأسف الشديد من سلوكٍ لدى الكتل الأخرى، تعزيز للهواجس التي تحدّثت عنها «الوفاق»، من سياسة «الإقصاء والتهميش»، وتوزيع المناصب بحيث بدا الأمر كله وكأنه دُبّر بليل، في جوٍ من الفرح الظاهر في الصباح.
وعلى رغم كل المحبّطات، كنّا متفائلين طوال الأسابيع الأخيرة، من خطابٍ وفاقيٍّ متوازنٍ وجلسةِ عشاءٍ جمعت النواب الجدد بالوفاق، على أمل الخروج من الطاحونة الفارغة، إلاّ أن ما حصل أعادنا إلى مربع الإحباط من جديد.
التحالف الرباعي الذي كابد «منطقة الفراغ»، حاول الخروج منها بإعلان تبنيه المشاركة، أما الطرف الآخر، الموالي تقليدياً، فلايزال يتصرّف بعقلية جمع أكبر كمية من الغنائم تحت بشته.
«الوفاق» من جانبها أشارت إلى هذه المسألة بوضوح، وبرّرت حركتها الأخيرة المفاجئة بأنها مجرد احتجاج على سياسة الاستئثار والإقصاء، لكيلا تترسّخ أعرافٌ غير ديمقراطية من بداياتها، ولكن هذه الخطوة غير الموفّقة، ستقود حتماً إلى مزيد من التهميش، وتزيد الهواجس والتوجسات لدى الطرف الآخر، فضلاً عمّا تمنحه من مادةٍ مجانيةٍ خصبةٍ للأقلام المشبوهة وأصحاب الأسماء المستعارة الجبانة، لإطلاق المزيد من التشكيكات، فتتحوّل خطوةٌ محدودةٌ تُمارَسُ ضمن هامش المناورة السياسية في البلدان الأخرى، إلى ربطٍ مفتعلٍ ومضحكٍ بما يجري في لبنان والعراق وحتى فنزويلا وتشيلي، كما حاولت بعض «العبقريات»!
«الوفاق» أخطأت مرتين، ولا نريد لها أن تخطئ مرةً ثالثةً فتتعثّر في خطواتها الأولى، ولكننا نتمنّى لو لم يقابل الطرف الآخر الخطأ بخطأ من الجنس ذاته، بما يعزّز من الشكوك ويغذّيها، بما ينبئ بوجود «أزمة ثقة» عميقة هي لب الموضوع. كان المأمول الرجوع إلى الحس البحريني الفطري بترجيح التأجيل، مراعاةً لـ «الشريك الآخر» في الوطن، في ظرفٍ حرجٍ وحسّاس، كان شارعه يعيش فاجعة تشييع أحد رموزه الكبار، بدل انتهازها فرصةً للاستئثار.
قد يكون ما نطرحه مطلباً مثالياً وخارج السياق، في ظلّ حالة الاستقطاب الطائفي، وقد نكون أشخاصاً مثاليين، نحلم بوطنٍ تسوده المساواة والعدالة، وتتقلّص فيه الأثَرَة وممارسات التمييز والتهميش والإقصاء، ولكن ما يجري حتماً هو أبعد ما يكون عن الحكمة من أطراف اللعبة السياسية، ما يضيع البرلمان بين نظرية «قاطعوها» و«تلقّفوها»، وهو فتقٌ قد يحتاج إصلاحه لأربعة أعوام?
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1566 - الثلثاء 19 ديسمبر 2006م الموافق 28 ذي القعدة 1427هـ