أينما يممت وجهك في أرجاء الوطن العربي بدوله الاثنتين والعشرين، يفاجئك التناقض الفج، بين دعوى الحرية تشق الفضاء عبر الميكروفونات الرسمية الزاعقة، وبين إجراءات شديدة تقمع الحرية، تحت دعاوى رسمية بحماية الحرية...
وبين هذه وتلك، بين الادعاء والادعاء المضاد، تتعرض قضية الحرية في بلادنا العزيزة،إلى أزمة شديدة الوعورة، توشك أن تقضي على أي أمل قريب أو بعيد في انتعاشها وازدهارها، بعد ما تمكن «التفسير الأمني» في إحكام رؤاه وقبضته الحديد على المبدأ، بحجة حفظ أمن النظام، بل بحجة حماية الحرية من أعداء الحرية... هكذا تبدو الصورة بجلاء عظيم!
بعد أن كتبت في هذا المكان يوم 6 ديسمبر/ كانون الأول 2006 مقالاً بعنوان «ماذا تقول لنا ديمقراطية لبنان» استهواني السفر إلى ساحة الشهداء ومن ثم ساحة رياض الصلح بوسط بيروت، حيث أكبر هايدبارك عربي منصوب هناك منذ 3 أسابيع على التوالي، باسم الدفاع عن الحرية، في مواجهة أعداء الحرية، الذين يردون من خلف الأسوار الحديد والأسلاك الشائكة باتهامات مضادة طبعاً، فكل فريق، من المعارضة والموالاة، يرى في نفسه ضمير الحرية ونصير الديمقراطية، ويرى بالتالي في خصمه العكس تماماً...
لحسن حظ لبنان وحظنا أن موجات المظاهرات والاعتصامات والمهرجانات الخطابية، المؤيدة للحكومة القائمة والمعارضة لها، لم تنقلب إلى فوضى مدمرة أو «خلاقة» ولم تتحول من صدام الخطابات الرنانة إلى صدام الأسلحة النارية، إذا مازالت حتى الآن على الأقل، تكظم الغيظ وتمارس الاحتجاج السلمي وتحافظ على النظام العام، وتلتزم بالأسلوب الحضاري في المعارضة السياسية النظيفة، حتى وإن اشتد اللفظ أو اشتط القول من هنا أو من هناك...
قلت حسناً يفعل اللبنانيون هذه المرة حين ظلوا يضبطون أعصابهم، ولا ينزلقون سريعاً في عصبية مستثارة، إلى مجاهل الفوضى وسخونة الصدام ورعونة الصراع باسم الحرية والديمقراطية، ربما تمسكا بالأمل الأخير في إنقاذ لبنان من الارتداد السريع إلى أحضان الشمولية العربية - القبلية، وارثة تحالف الفساد والاستبداد المتمسكة به حتى اللحظة!.
أما حين تمد بصرك بعيداً، نحو ساحات عربية أخرى، فإن بصرك يرتد حسيراً وروحك ترتج بلوعة الحزن، على ما يجري من اقتتال دموي رهيب في فلسطين والعراق والصومال وغرب السودان وربما جنوبه، فثمة فرقاء يقاتلون بعضهم بعضاً، وثمة أشقاء يذبحون أنفسهم تحت أقدام الغازي المحتل والمحرض والممول، دائماً ايضاً باسم الدفاع عن الحرية، وثمة طرفان يمنعان السلاح القاتل بدعوى فك الحصار من حول الحرية، وثمة أجنبي وأميركي تحديداً، استهوته اللعبة المميتة، فمضى في تشجيع الاقتتال بين الاشقاء، تنفيذاً لنظرية «الفوضى الخلاقة» إياها!.
وحين نرى آثار هذه الفوضى الخلاقة، بجانبيها السياسي السلمي، والقتالي الدموي، تنتشر بسرعة هادرة في المنطقة، تعصف بفلسطين والعراق والسودان والصومال، وتنخر في لبنان وسورية ومصر، وتهدد المغرب واليمن ودول الخليج، فإن علينا أن نتوقف ونتساءل أي فوضى هذه، وأية حرية يتحدثون عنها، ومن يحاصر من حقاً!.
الواضح الجلي أن الفوضى المنظمة وغير المنظمة هي التي تحاصر الحرية، داخل دوائر متتابعة متشابكة من الاسلاك الشائكة، من المحظورات والموانع والقيود والسدود، من الإجراءات القمعية وسياسات الاستبدادية، التي تعوق في كل حال أية دعوة حقيقية لإصلاح ديمقراطي سليم، في هذه المنطقة التي تعاني منذ قرون من فساد واستبداد مقيم لا يريد أن يرحل طواعية، ولا يستطيع الشعب المقهور إزاحته وإجباره على الرحيل قسراً... فالمتشابهات في فلسفة الحكم المطبقة والمساندة، والمعادية من حيث المبدأ للديمقراطية الكارهة للحرية، تعتمد كما نرى على ثلاثية «الاحتكار والاحتقار والحصار» احتكار الحكمة والحكم والثروة واحتقار الشعب القابل للقهر المرحب بالخضوع، وحصار كل دعوة ولو همساً للحرية وإصلاح الأوضاع المتردية بأساليب ديمقراطية سلمية وسلمية...
وهي تعتمد في تنفيذ هذه الثلاثية الرائية «الاحتكار والاحتقار والحصار» على ثلاثية أخرى هي «الجوع والجهل والجندرمة» وهي كما ترون ثلاثية جيمية، فحين يسود الفقر الجالب للجوع، والجهل المصادر للتفكير، تستطيع الجندرمة العسكرية والأمنية، ممارسة مهمتها الضيقة في حماية ثلاثية أخرى تدخل في باب المحرمات والمقدسات التي لا يطولها نقد، وهي ثلاثية «الحاكم والدين والجيش».
ولا نظن أن فرض التمييز الحمائي، والقدسية المصطنعة على الأسس الثلاثة التي يقوم عليها الحكم في منطقتنا، ونعني قدسية الحكام، وهيبة المؤسسات الأمنية والعسكرية، واستغلال الدين في الترويج السياسي وتجنيد المؤسسات الطائفية والمذهبية في خدمة السلطان، إنما يفرض حصاراً حقيقياً وصارماً على كل مبادئ الحرية ورؤى الاستنارة، ويغلق كل أبواب الإصلاح الديمقراطي، بما يعنيه من تعددية وتداول للسلطة وقسمة عادلة للثروة وحرية متساوية للجميع، في إبداء الرأي واتخاذ الموقف والتعبير عنه بكل السبل المشروعة بما في ذلك الحق في اختيار الحاكم.
وحين نعود من هذه التهويمات الى أرض الواقع المعاش، نرى أن لبنان بحاله الراهنة، وهي حال قديمة جديدة، قائمة ومستمرة عبر 6 عقود هي عمر الاستقلال، يشكل نموذجاً للغياب الحقيقي لمبدأ الحرية بكل عمقه وشموله، على رغم كل مظاهر الديمقراطية، التي يبرهن بها الاشقاء اللبنانيين على ديمقراطيتهم الحقيقية، ابتداء من حق التظاهر والإضراب والاعتصام، الى حق الانتخاب، وصولاً الى حرية الصحافة، التي ظلت لأجيال مضرباً للأمثال، ونموذجاً تقتدي به الصحافة في بلاد عربية أخرى...
لكن حين نغوص في الاعماق، نتحاور برؤية ونتجادل بمنطق، كما أتيحت لي الفرصة في الأيام الماضية، داخل دوائر متعددة الرؤى مختلفة الانتماءات، من المثقفين والسياسيين اللبنانيين، نكتشف أن الحرية تحت الحصار، حتى في لبنان، فما بالك بالدول الأخرى ياعزيزي وأنت أدرى بها!.
الحرية في لبنان تحت الحصار، كانت ومازالت، لآن التركيبة اللبنانية قامت منذ الاستقلال في منتصف أربعينات القرن الماضي، على قاعدة التوافق والتوافقية، وعلى سياسة لا غالب ولا مغلوب، وهي اختراع لبناني عبقري، لكنه اختراع لا يقيم دولة واحدة تخضع لقانون واحد ولفلسفة حكم موحدة، إنما تقوم على توافق بين 18 طائفة كبيرة وصغيرة، عرقية ودينية، أبرزها طوائف الموارنة المسيحيين، والسنة والشيعة والدروز، تتخندق كل منها خلف عقيدته الدينية والمذهبية، وتدافع عن مصالحها الطائفية، حتى وإن رفعت شعارات سياسية وارتدت أحزمة ايديولوجية، وخاضت انتخابات برلمانية، تحاول من خلالها أن نمارس لبعة «لا غالب ولا مغلوب» في ظل حماية ميليشياتها المسلحة التي هي في الواقع أقوى من الجيش الوطني نفسه!.
التوافقية اللبنانية، حسمت الأمر منذ البداية، فوزعت المناصب الكبرى، بل والصغرى، على أساس التوازن الطائفي، وأظن أنه توزيع فرضه المحتل الفرنسي قبل انسحابه، فمنصب رئيس الجمهورية محجوز حتماً للموارنة، ومنصب رئيس البرلماني للشيعة ومنصب رئيس الوزراء للسنة، طبقاً لمبدأ «المحاصصة» وفق التعبير اللبناني، الذي يحفظ أيضاً للدروز والأرمن والارثوذوكس حصصهم الأصغر، من المدير إلى السفير، ومن المختار «العمدة» إلى الخفير، بشرط أن يظل منصب قائد الجيش للموارنة حكماً.
ولا أظن أن هذه التوافقية الطائفية، تدخل في باب الديمقراطية الحقيقية، القائمة على مبدأ المواطنة والواحدة المتساوية في الحقوق والواجبات، بصرف النظر عن المذهب والعرق والطائفة والدين، إنما المؤكد أن هذه التوافقية هي التي انتجت ما نراه الآن في لبنان التي يعصف به المجهول، نتيجة الصراع المشتعل بين طوائفه دفاعاً عن مصالحها، بينما أصابع إقليمية ودولية كثيرة، تلقي على نار الفتنة، كلما بان في الأفق أمل الوفاق... وخطورة ما يجري في لبنان هذه الأيام من صراع سياسي المظهر طائفي الجوهر، انه ناقل للعدوى، بعدما انتشر فيروس الصراع الطائفي والمذهبي والعرقي، من العراق الى فلسطين الى الصومال والسودان، وها هي ملامحه تتبدى وتهدد دولاً راكزة، مثل مصر والمغرب والجزائر، فضلاً عن سورية، والخليج والجزيرة العربية بتنوعها البشري وتعددها المذهبي...
وللأسف فإن الحرية والديمقراطية، تستغل كواجهة لهذه الصراعات القائمة والقادمة، وفي حين نهمل نحن معالجة أسبابها الحقيقية ودوافعها الكامنة، خصوصاً الاحساس بالظلم السياسي والديني والاجتماعي، مع معاناة التمييز، بالإضافة إلى القهر السياسي، فإن فلاسفة «الفوضى الخلاقة» ذلك الاختراع الأميركي، ومن خلفهم كتائب المتأمركين العرب، يركبون الموجة الملتهبة، وينشرون الفيروس الدامي، ويروجون للصراعات الدامية باسم الحرية، والحرية منهم براء... هكذا للأسف تخرج حريتنا من حصار لتدخل في حصار، حتى أدمنا حال التخلف، وهي كذلك أدمنتنا... فالتصقنا!
خير الكلام:
يقول الشاعر:
ولو نـــــار نفخـــت بهــــا ضـــاءت
ولكــــــن أنـــــــت تنفـــــخ في رمـاد?
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 1566 - الثلثاء 19 ديسمبر 2006م الموافق 28 ذي القعدة 1427هـ