لاتزال واشنطن حتى الآن تتعامل باستخفاف مع النداءات السورية والتصريحات والخطب والتعليقات التي تبدي استعداد دمشق للتفاوض مع «إسرائيل» وتقديم المساعدة للولايات المتحدة لانتشالها من الورطة التي انزلقت إليها في العراق. أميركا كما يظهر من ردود الفعل المعلنة ليست على قناعة بأن سورية قادرة على تقديم مثل هذه الخدمات. كما أنها ليست مطمئنة لهذه التوجهات المسالمة، وأحياناً تبدو مشككة في حسن النية التي تم التأكيد عليها مراراً خلال الشهور الأربعة الأخيرة.
لم يقتصر الاستخفاف على الجانب الأميركي وإنما شمل الجانب الإسرائيلي أيضاً. وباستثناء مواقف وزير الدفاع عمير بيرتس المؤيدة لهذا التوجه السوري الرسمي تعاملت حكومة إيهود أولمرت مع الدعوات المفتوحة بشيء من السخرية أو التشكيك. فكل فترة تصدر عن الجهات الإسرائيلية تعليقات مبهمة ولكنها واضحة في سلبيتها. وأحياناً كانت ردود الفعل الإسرائيلية تربط موافقتها بجملة شروط مسبقة تطالب دمشق بتنفيذها كدفعة أولية على الحساب حتى تنال الاطمئنان وتكسب الارتياح وتخفف من المخاوف المزعومة لدى تل أبيب.
هذه المواقف الأميركية - الإسرائيلية السلبية من الدعوات السورية المعلنة أو تلك التي تسربت من خلال قنوات دبلوماسية أوروبية وغير أوروبية تطرح السؤال العجيب كما قال رئيس الوزراء اللبناني السابق سليم الحص تعليقاً على الموضوع. وفعلاً السؤال مدعاة للعجب، فهل من المعقول أن تفوت تل أبيب فرصة ذهبية كانت تبحث عنها سابقاً، والآن حين توافرت فإذا بها تتدلل وتتشاوف وتشترط.
إلا أن تعجب سليم الحص في محله وليس في محله. في محله لأن الدول العربية كانت ترفض سابقاً مصافحة «إسرائيل» ومصالحتها والآن انقلبت الطاولة وباتت «إسرائيل» هي الطرف الذي يرفض المصافحة والمصالحة. وليس في محله لأن الدول العربية عرضت على تل أبيب أكثر من مرة فرصة التفاوض والتفاهم على تسوية سلمية مشروعة بدءاً من طاولة مدريد التي انعقدت بعد حرب الخليج الثانية في العام 1991 وانتهاء بمشروع السلام العربي الذي صدر عن قمة بيروت قبل حرب الخليج الثالثة في العام 2003.
النداءات والدعوات والمبادرات ليست جديدة. وبعضها مضى عليه أكثر من 15 سنة وحتى الآن لم تلق الدول العربية سوى الصمت المريب أو السخرية اللاذعة. وهذا فعلاً يطرح السؤال العجيب كما قال سليم الحص. لماذا فعلاً تدير «إسرائيل» قفاها كلما صدرت دعوات أو نداءات عربية تطالب بالتفاوض والتسوية والسلم؟
هناك أجوبة كثيرة يمكن وضعها في رسم علامات الاستفهام وأسئلة التعجب. مثلاً ربما تكون الولايات المتحدة بعد «أزمة الكويت» اكتشفت نقاط ضعف كثيرة في الجبهة العربية معطوفاً عليها سقوط المعسكر الاشتراكي وتفكك الاتحاد السوفياتي، وهذا ما جعل واشنطن تعيد النظر في استراتيجية «الحرب الباردة» وتبدأ التعامل مع الدول العربية على خلفية «غالب ومغلوب».
هذا أولاً. ثانياً، ربما تكون «إسرائيل» استشعرت عوامل الضعف تلك من خلال تحالفها الاستراتيجي مع الولايات المتحدة فقررت اعتماد سياسة القهر والتعامل مع قواعد اللعبة بشروط جديدة.
ثالثاً، الانقسامات العربية وعدم وضوح رؤية استراتيجية مشتركة وتفاوت التعاطي مع المخاطر الأمنية بين دولة عربية وأخرى، شكلت كلها قناعة راسخة لدى التحالف الأميركي - الإسرائيلي بأن الوضع العربي يمر بحالات تخثر وغير جاهز لا للمواجهة ولا حتى للدفاع عن أمنه. وبالتالي فمن لا يملك القدرة على حماية ما هو قائم فهو أيضاً غير مستعد لاستقبال ما هو مستجد.
ربما تكون كل هذه العوامل أسهمت مجتمعة في تكوين رؤية أميركية - إسرائيلية تتعامل بخفة مع التهديدات العربية بالمواجهة أو النداءات العربية للمصالحة. فمن لا يستطيع المواجهة لا يستطيع المصالحة. وفي الحالين تبدو الدول العربية ضعيفة أو غير مقنعة وهذا يعتبر إشارة كافية لتل أبيب وواشنطن بعدم جدوى النظر بجدية مع التهديدات أو النداءات.
لبنان ربما يكون الاستثناء عن القاعدة، فهو الدولة العربية الوحيدة ولأسباب واعتبارات كثيرة ومختلفة يحق له التفاوض ومن موقع القوة. ومع ذلك يرفض التفاوض ورد سلباً على الكثير من الدعوات الإسرائيلية التي طالبته بطرق الباب والتفاهم. وهذه المعادلة تعتبر مفارقة عجيبة في الدبلوماسية فمن يحارب ويتحطم ويدفع الثمن يرفض تلبية نداءات التفاوض التي توجهها تل أبيب بينما من لا يحارب يوجه دعوات إلى التفاوض وتل أبيب ترفض التجاوب معها.
معادلة متعاكسة
هذه المعادلة المتعاكسة ربما تعطي سليم الحص فكرة عامة عن تعجبه من تلك المفارقات العربية. رئيس الوزراء اللبناني طرح السؤال وتعجب من الموقف الإسرائيلي. والسؤال فعلاً بحاجة إلى قراءة موضوعية للإشارة إلى بعض الزوايا الغامضة. فعلاً لماذا ترفض «إسرائيل» التجاوب مع نداءات التفاوض والتفاهم؟
هنا أيضاً أجوبة كثيرة يمكن تقديمها كإطار عام، من نوع أن الولايات المتحدة لا تشعر بوجود انقلاب في موازين القوى وأن تورطها في العراق لا يشكل سبباً كافياً لتقديم تنازلات في أمكنة أخرى، أو من نوع أن «إسرائيل» لا تشعر بأن هناك خطراً يهدد مصالحها وكيانها وبالتالي فهي ليست في موقع صعب يفرض عليها التنازل عن احتلال في وقت يبدو الطرف الآخر لا يملك القدرة على التحرير، أو أن أميركا و «إسرائيل» تجدان أنهما في موقع الأقوى وأن الظروف العربية تسير في الاتجاه الذي يناسبهما. فلماذا تتنازل أو تتفاوض واشنطن - تل أبيب مع دول غير موحدة أو على الأقل ليست متفاهمة على الحد الأدنى الضامن لمصالحها وأمنها وسيادتها؟ ولماذا تقبل بنداءات التسوية في وقت دخل العراق مرحلة الاقتتال الأهلي وفلسطين دخلت طور الاصطراع السياسي (فتح وحماس) ولبنان أخذ ينزلق رويداً إلى مخاض سيخرج بعده مجموعة أشلاء مهشمة.
كل هذه الفرضيات ربما تساعد سليم الحص على تنوير بعض جوانب سؤاله المتعجب من السلوك الأميركي - الإسرائيلي. مثلاً قامت «إسرائيل» بتوجيه ودعم من الولايات المتحدة بالعدوان على لبنان لمدة نحو 34 يوماً حطمت خلاله البنى التحتية والسكانية وأفرغت الجنوب من قراه واتبعت سياسة الأرض المحروقة وتقطيع الأوصال وشلت دولته وجرفت الطوائف والمذاهب إلى ساحات التحدي الداخلية ومع ذلك لم تحرك الدول العربية ساكناً. حتى الدول المجاورة أو المعنية بالموضوع تجاهلت أمر العدوان وكأن الحرب تقع على قبيلة في أنغولا أو مقاطعة في تايلند.
كل هذا الجمود القريب والبعيد يشكل في معناه السياسي رسالة واضحة للتحالف الأميركي - الصهيوني وعنوانها العريض والأساسي يمكن اختصاره بالآتي: نحن غير جاهزين للحرب أو التصدي للعدوان.
العدوان على لبنان جرى لأسباب «قريبة» و «بعيدة» كما يقول ابن خلدون في مقدمته. الأسباب القريبة هي تحطيم لبنان وإخراجه من المعادلة والانتقام من حزب الله رداً على هزيمة العام 2000. والأسباب البعيدة هي محاولة اختبار مدى استعداد الدول المجاورة أو المعنية بالموضوع للتحدي ورد العدوان.
«الأسباب البعيدة» مهمة جداً لفهم الدوافع التي جعلت واشنطن - تل أبيب ترد باستخفاف على نداءات التفاوض والتفاهم. فالعدوان أعطى فرصة 34 يوماً لاختبار مدى الاستعداد للتدخل والحماية، وللأسف لم تستفد الدول المجاورة والمعنية بالموضوع، وهذا ما أعطى تل أبيب فكرة موجزة عن الأطراف التي هددتها مراراً بالويل والثبور واحتمال «مسحها عن الخريطة». وعندما وقفت الدول المجاورة والمعنية على الحياد الايجابي واختارت موقع المتفرج تكونت لدى حكومة أولمرت المدعومة من إدارة جورج بوش تلك الصورة السلبية وباتت على قناعة بأن التهديدات ليست جادة وأن من يقول بها ليس مستعداً لتنفيذها أو على الأقل يفتقر إلى تلك القدرات العسكرية واللوجستية المطلوبة عملياً لنقل الكلام من الورق إلى أرض الواقع.
العدوان على لبنان استهدف توجيه أكثر من رسالة. والرسالة الأهم كانت جس نبض لمدى فاعلية تلك التهديدات. وحين جاء الجواب بعد اختبار طويل دام نحو 34 يوماً توافرت قناعة لدى واشنطن - تل أبيب بأن موازين القوى لاتزال تعمل لمصلحة استراتيجية التقويض التي تعتمد تكتيك «الفوضى الهدامة» الذي بدأ في العراق وانتقل الآن إلى فلسطين وربما غداً إلى لبنان.
كل هذه الفضاءات ربما تشكل بعض جوانب ذاك الجواب الذي يبحث عنه سليم الحص حين طرح سؤاله وتعجبه بشأن رفض أولمرت نداءات التفاوض والتفاهم والسلم. فأولمرت حصل على ما يريد خلال عدوانه على لبنان فهو حطم الدولة وأثار زوبعة أهلية داخلية واختبر مدى قدرة دول الجوار والمعنية بالموضوع وضعف جاهزيتها لتلبية نداء الدفاع عن البلد الصغير والجميل?
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1566 - الثلثاء 19 ديسمبر 2006م الموافق 28 ذي القعدة 1427هـ