وُلد في العام 1937، في قريةٍ صغيرةٍ محافظةٍ في الطرف الشمالي الغربي من جزيرة البحرين، وبدأ مبكراً تعلّم القرآن الكريم. توفي عنه أبوه ولمّا يبلغ العاشرة، فاعتنى بتربيته ملا عبدالله البلادي. في مطلع شبابه شارك في المظاهرات أيام «الهيئة»، ولاحقاً شجّعه مدرّسه على السفر لتلقي العلم في النجف الأشرف، وهكذا سافر في العام 1962 إلى العراق.
في الحوزة العلمية التقى كبار المرجعيات الدينية والعلماء. ومكث هناك أحد عشر عاماً، دارساً للعلوم الدينية، وتزامنت عودته مع التجربة البرلمانية الأولى، حيث دخل المجلس نائباً.
في العام 1977، دخل سلك القضاء، قاضياً في المحكمة الكبرى، مدة 12 عاماً، حتى فصل من عمله في العام 1988، في واحدةٍ من المراحل الحرجة التي ساد فيها قانون «أمن الدولة»، بعد أن تلقّى مكالمةً هاتفيةً تطلب منه التوقف عن العمل رسمياً.
في العام 1992، ومع وصول الوضع السياسي العام إلى طريقٍ مسدود، شارك في تقديم «العريضة النخبوية» المطالبة بالحقوق الدستورية، وفي العام 1994 شارك في تقديم «العريضة الشعبية»، لتتخذ الأحداث مساراً آخر مع نهاية العام: مسيراتٌ سلميةٌ ومظاهراتٌ تطالب بالعدالة والمساواة قوبلت بالعنف، تلتها مواجهاتٌ واعتقالات، ويبدأ تساقط الشهداء. وكان أول المصلين على جثماني الهانيين، خميس السنابس، ووسطي جدحفص في ديسمبر 1994، ولاحقاً عبد الحميد بالدراز في مارس/آذار 1995،على رغم الإجراءات الأمنية المشدّدة وكثافة الطوق الأمني المضروب حول مناطق «الانتفاضة».
في مطلع أبريل/نيسان 1995، داهم زوار الفجر منزله وتم تفتيشه، وهوجم الجامع القريب من منزله وعُبِث بمحتوياته. لم تكن هناك أسلحةٌ ولا عبواتٌ ناسفة ولا مخططات لقلب النظام، وإنما كتبٌ دينيةٌ وأدعيةٌ إسلامية. وجرت صبيحة اليوم التالي صدامات أدت إلى سقوط شهيدين، وخمسة وأربعين جريحاً. وبقي المنزل محاصراً 15 يوماً، ثم اقتيد إلى السجن قرابة ستة أشهر ليفرج عنه في 25 سبتمبر 1995 ويفرض الحصار مجدداً.
وفي يناير 1996، اعتقل مرةً أخرى ليودع في السجن الانفرادي لأكثر من ثلاث سنوات ونصف، لا أدري كيف قضاها الشيخ الذي جاوز الستين. ومن الزنزانة اقتيد إلى منصة الاتهام في يوليو 1999، وحُكم عليه بعشر سنوات سجناً، وغرامة قدرها 15 مليون دينارفي أغرب حكمٍ تورط فيه قضاء البحرين المسيّس. وأطلق سراحه في اليوم التالي، ليخضع للإقامة الجبرية من جديد... متنقلاً من سجنٍ صغيرٍ إلى سجنٍ أكبر ينداح على اتساع أوجاع الوطن، حتى الإعلان رسمياً عن تجميد قانون وإجراءات «أمن الدولة»، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين وعودة المبعدين من المنافي والشتات.
بعد الحصار، وفي أول إطلالةٍ له على الجمهور المتعب اللاهث طويلاً من أجل حياةٍ حرّةٍ كريمة، بدأ خطابه بقوله: «لقد اشتقت إليكم كاشتياق يعقوب إلى يوسف»... فبكى وأبكى، فكم كُتب على هذا الشعب أن يذرف من الدموع.
بعد تدهور صحته أُرسل إلى ألمانيا، بعد تعرضه لأربع جلطات في الرأس، ليعود رهن فراش المرض، ويختفي في الظل أحد أبرز رموز النضال في هذه الحقبة من تاريخ النضال الوطني.
لم يكن الجمري فيلسوفاً مثالياً حالماً، ولا صاحب نظريات، وإنما كان رجلاً له حضوره الاجتماعي، يزور مختلف مناطق البحرين ويختلط بأهلها. عاش مع الشعب، وتحسّس آلامه، وطالب بحقوقه، وتحمّل مسئولياته في أزمنة الشدة وأوقات العسر واشتداد البلاء، حين كان ينكص الكثير من الرجال، ويتقدّم الصفوف حين يتوارى كثيرون عن الأنظار.
صباح أمس... غيّب الموت الشيخ الجمري، واستُرِدت الأمانة إلى بارئها. نسأل الله له الرحمة والغفران، ولعائلته ومحبيه، وجماهير الفقراء خصوصاً، الصبر والسلوان.
يوم شديد البرودة... شديد الحزن
- ذكر الشيخ في مذكراته ان والده شُيّع في يومٍ باردٍ شديد البرودة، وقضى الله أن يكون تشييعه في يومٍ باردٍ شديد البرودة. - رغم قساوة الجو، شاركت وفود من مختلف مناطق البحرين في تشييعه، بمشاركةٍ نسائيةٍ كبيرة، قطعت عدة كيلومترات مشياً على الأقدام، في وقفة وفاء سجّلها هذا الشعب الكريم لمن ضحّى من أجله براحته الشخصية والعائلية?
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1565 - الإثنين 18 ديسمبر 2006م الموافق 27 ذي القعدة 1427هـ