العدد 1565 - الإثنين 18 ديسمبر 2006م الموافق 27 ذي القعدة 1427هـ

الشيخ... والبحرين

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

في روايته «الشيخ والبحر» حاول الكاتب ارنست همنغواي وصف تلك المفارقات الهائلة التي واجهت الشيخ في البحر. فالشيخ كان في قاربه يصطاد وعلقت السمكة وحاول سحبها ولم يفلح. حاول ثانية ولم ينجح. كان الصيد كبيراً وأثقل من قدرة شيخ بمفرده على حمله. لجأ الشيخ إلى أسلوب آخر: لماذا لا يحاول إيصال القارب إلى الشاطئ وهناك يعمل على انتشال السمكة من البحر؟ ولكن القدر كان على موعد آخر معه، فهبت عاصفة هوجاء وأخذت الأنواء تضرب القارب في عرض البحر. لم يستسلم الشيخ وأخذ يصارع عنف الطبيعة وباتت أمامه الآن مهمات ثلاث: الأولى إنقاذ المركب وإيصاله إلى بر الأمان. الثانية إنقاذ الصيد الثمين والثقيل. والثالثة إنقاذ نفسه من الغرق.

بدأت معركة الشيخ مع الطبيعة والزمن والقدر الذي لا يرد. كانت المواجهة عنيفة وأصر الشيخ على انجاز مهماته الثلاث. وحتى تكتمل شروط المعركة كان عليه أن يحلم بالغد الجميل، وكان عليه أن يفكر بواقعه الذي تعصف به الأمواج والأنواء، وكان أيضاً عليه أن ينقذ المركب من الغرق وأن تصل الأمانة إلى الشاطئ. والأهم كان عليه أن يصمد ويصبر ويتحمل كل تلك المعاكسات التي حاولت وضع العراقيل لمنع حلمه الجميل من التحقق.

الصمود والصبر والحكمة والخبرة والمخيلة والتعامل المرن مع الصعوبات كلها أعطت تلك القوة لهذا الشيخ في استكمال مسيرته ومواصلة رحلة العودة من عرض البحر إلى الشاطئ. وخلال رحلة العودة لعبت الأحلام دورها في تسهيل المهمات الصعبة. فالحلم الواقعي يعطي الإنسان دفعة حارة تطلق شرارات تحرك تلك الطاقات النائمة في عقل الشيخ وجسمه. فالحياة في النهاية مجموعة أحلام واقعية والموت يقظة و»الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا».

واصل الشيخ مهمته الكفاحية مستخدماً حلم اليقظة للانتباه إلى تلك المخاطر التي تهدد القارب بالغرق والقوت بالهلاك. وفشلت أنواء البحر في تحطيم المركب ونجح الشيخ في تحدي عنف الطبيعة. وعاد الشيخ بالقارب سليماً إلى بر الأمان بعد أن أنهكه الكفاح المرير وأضعفت الأنواء جسده وكادت قواه أن تنهار. إلا أن الحلم بالغد كان هو البديل والقوت الذي سحبه من داخل البحر شكل ذاك التعويض عن أتعاب كفاحه المضني ضد المعاكسات.

ولكن القدر لعب دوره ثانية. فالشيخ نجح في مهمته ولكن النتائج لم تكن متكاملة. القارب وصل إلى بر الأمان. الشيخ منهك القوى ولكن حلمه بالغد الجميل لايزال يشعل في داخله تلك الحرارة التي تحرك تلك الطاقات والخلايا النائمة. ولكن السمكة (القوت) تآكلت خلال رحلة العودة. والمفاجأة كانت أن الشيخ حين سحب ذاك الصيد الثقيل من البحر على بر الأمان كان تحول إلى هيكل عظمي. وهذه سنة الحياة. الإنسان يحلم ويطمح ويكافح وليس بالضرورة دائماً أن يحقق كل شيء. فهناك الكثير من الأشياء تمر في ذاكرة البشر ولكنها لا تعلق دائماً بصنارته وإذا علقت ليس بالضرورة أن تظهر بالواقع كما ارتسمت معالمها في المخيلة. أحلام الإنسان كبيرة وواسعة وقدرة الإنسان على التخيل أكبر كثيراً من المساحات التي يعيش فيها أو يتعامل معها. هذه سنة الحياة والسنن مجموعة حكم تتراكم، بعضها يتحقق في الواقع وبعضها يمر في المخيلة. والمخيلة دائماً سلسة أحلام متصلة في حلقات فما تكاد تنقطع حلقة أو تغيب حتى تبدأ ما تبقى من حلقات تلعب دور الغائب لعل وعسى أن تنجح في تحقيق حلمه.

غاب شيخ همنغواي عن البحر ولكن حلمه الذي غاب عنه لايزال يكافح في المخيلة بانتظار ذاك اليوم الجميل. وأمس غاب الشيخ عن البحرين ولكن حلمه لايزال في المخيلة يكافح من أجل الوصول إلى ذاك الغد الجميل.

الشيخ و«الوسط»

قصة «الشيخ والبحر» تشبه كثيراً حكاية الشيخ عبدالأمير الجمري والبحرين. فالمخيلة متقاربة والحلم متشابه والقدرة على الصبر والتحمل والعمل الدؤوب لإنقاذ المركب من الغرق وإيصال الأمل إلى شاطئ الأمان كلها مهمات راودته وكافح من أجلها حتى تكون البحرين كما كان يفكر بها ويتخيلها في أحلام يقظته.

هذا ما حصل مع اختلافات كانت من صنع القدر. في رواية همنغواي يصل الشيخ والقارب إلى شاطئ الأمان ولكن الحلم تقطع إلى أشلاء. وفي حكاية الشيخ مع البحرين وصل القارب مع الحلم ولكن الرجل الذي صارع الأنواء كان منهك القوى إلى درجة أنه لم يعايش لحظات الحلم. فالشيخ اكتفى بما تيسر له من مشاهد اقتربت من الواقع ولكنها ظلت تبحر في حلم اليقظة.

«الوسط» كانت من نتاج مخيلة الشيخ. فهو فكر بها وصنعها في يقظته الحالمة ولكنها ظلت ذاك الحلم الذي لم يخرج من المخيلة إلى الواقع. بين «الوسط» والشيخ بضعة أيام طويلة فصلت صدور العدد الأول عن لحظات دخول الشيخ فترة الغياب التي مزجت دقائق الزمن وتقلباته بتلك الصور التي تبثها المخيلة وتقوم برسمها في الذاكرة.

حظ «الوسط» مع الشيخ كان عاثراً. فهذه الصحيفة في أيامها الأولى كانت بحاجة قصوى إلى تلك التجربة والحكمة والقدرة على التحمل والصبر والتعامل بمرونة مع وقائع الحياة ومعاكسات الدنيا. إلا أن القدر أراد خوض الاختبار في لحظة مفارقة بين حلم اليقظة ووقائع الحياة ومجرى الأيام. فالحلم تحقق والأمانة وصلت بالقارب إلى شاطئ البحرين إلا أن الشيخ الذي كافح وجاهد لمنع الأنواء من تحطيم المركب وصل ولم يصل.

غاب الشيخ في حلم الدنيا حين بدأت «الوسط» تحقق بعض ما صنعته المخيلة. لعل في هذه المفارقة حكمة. ولاشك في أن الصحيفة خسرت الكثير في لحظات كانت فعلاً بحاجة إليه. ولكن القدر له أحكامه. فهناك الكثير من الأحلام تغيب مع مخيلة صانعها، وهناك بعضها يتحقق مع صانعها، وهناك أحلام تتجسد في صور تتقاذفها حالات متعاكسة بين الواقع والمخيلة. و»الوسط» بقيت في مخيلة الشيخ حلم يقظة بينما هي في الواقع انتقلت من فكرة تتحرك بالقوة إلى عمل يتجسد في الفعل.

غاب الشيخ عن «الوسط» ودخل حلم اليقظة في لحظات كانت «الوسط» تخرج من يقظة الحلم إلى الواقع اليومي. والآن وبعد نحو خمس سنوات من تلك المفارقات يغادر الشيخ البحرين في رحلة يفارق فيها الحياة الدنيا بينما أحلام اليقظة لاتزال تعاند وتصابر للوصول إلى تمثل تلك الصور التي تبتكرها مخيلة الإنسان. فالحياة الدنيا في النهاية رحلة أحلام والموت هو لحظة انتباه، فهو ذاك البرزخ الذي يفصل ويربط بين يقظة الحلم ورحلة الأحلام?

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1565 - الإثنين 18 ديسمبر 2006م الموافق 27 ذي القعدة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً