لم يشأ الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد التعامل مع الطلبة الذين قاطعوا خطابه في جامعة أمير كبير بالعاصمة (طهران) بشعار «الموت للدكتاتور»، ومن ثمّ إحراق صوره جِهاراً وأمام بصره بغير أسلوبه المثير للجدل في التعاطي مع الحوادث الداخلية والخارجية. فقد ردّ نجاد على ذلك الحدث الذي يحصل له لأول مرّة منذ انتخابه رئيساً للجمهورية في يوليو/ تموز من العام 2005 من خلال مُدوّنته الشخصية (Blog) بأن هذا الحادث «أدخل السرور إلى قلبه حين تتمكّن مجموعة قليلة بين أكثرية طلابية بتوجيه إهاناتها لرئيس جمهورية انتخبه الشعب وبحضوره بكل حريّة ومن دون خوف، وقد ذكّرني ذلك بالأوضاع الطلابية في المرحلة التي كنت فيها طالباً وذكّرتني أيضاً باحتفالات يوم الطالب قبل الثورة وكيف كنا في سنتي 1975 - 1976 في غياب الفضاء السياسي وعدم إمكان توجيه أي انتقاد للحكومة العلمانية المدعومة من الغرب، إذ كان ثمن الإهانة لمسئولي الدولة الموت أو السجن أو التعذيب. أما اليوم فإن أقليّة محدودة تقوم بتخريب جلسة للأكثرية وتصل إلى حدود توجيه الإهانة وإحراق الصور وبوصف الحكومة المنتخبة بأنها صنو للدكتاتورية من دون أن يكون لديهم خوف من العواقب، عندما رأيت بالأمس هذا المشهد الحر لم يعتريني أي شعور بالألم والانزعاج تجاه أي فرد لا كشخص اسمه أحمدي نجاد بل كخادم لهذه الأمة ورئيساً للجمهورية والمسئول عن الإدارة السياسية للبلاد، وشكرت الله بكل ما أوتيت من قوة على نعمة هذه الثورة العظيمة المانحة للحرية التي هي نتاج دماء الأخوة والأخوات الشهداء، وإنني أقدّم كل ماء وجهي وكياني فداءً لهذه الحرية».
بطبيعة الحال فإن الرئيس التعميري أحمدي نجاد قد استطاع بهذا الخطاب عصر آخر قطرات الربحية من موقف الطلاب وتوظيفه لصالحة بطريقة ذكيّة دَرَجَ عليها في لقاءاته مع مُريديه. وهي تُذكّرني بحادثة مشابهة وقعت للرئيس الإيراني السابق السيدمحمد خاتمي في جامعة طهران في السادس من ديسمبر/ كانون الأول من العام 2004 عندما قاطع خطابه طلاب إيرانيون في اليوم الوطني للطالب بشعارات «عار عليك يا خاتمي» و»خاتمي نكرهك»، «لقد انتخبناك دون فائدة»! والفارق بين الحادثين هو أن من هتفوا ضد خاتمي كانوا من نسيجه السياسي «إصلاحيون»، أما من هتفوا ضد أحمدي نجاد فلم يكونوا «محافظين»!
من يتابع نشاطات الرئيس أحمدي نجاد من خلال مُدوّنته الشخصية التي يُفرِد لها خمسة عشر دقيقة يومياً لربما يُصادف الكثير من المواقف المثيرة للجدل والتي اتّسمت بها شخصيته التي تحولّت بسرعة البرق إلى شخصية كارزمية في فترة قياسية منذ مجيئه إلى الرئاسة قبل سنة وأربعة أشهر، والتي أحسبها قد تكوّنت لبنة بعد أخرى منذ أن كان مُحافظاً لمحافظة أردبيل في عهد الرئيس السابق هاشمي رفسنجاني، ومن ثمّ رئيساً لبلدية طهران، فقد صدّر نجاد مُدوّنته بقوله: « کان الهدف من إنشاء هذا الموقع هو الارتباط بزائريه ارتباطاً مباشراً وثنائياً، ولذلك فضّلت أن أقضي جميع وقتي الذي خصّصته للموقع في قراءة آراء الزائرين الأعزاء ونظراتهم، وإنني أرى أن معظم الخطابات الموجّهة إليّ تتضمّن مقترحات وانتقادات أو حتى أسئلة، وذلك لاعتقادهم بأني أنا الذي سأقرأها شخصياً».
والغريب أن الكثير من الرسائل التي يُوجهها زائرون إيرانيون وعرب تتلقّى رداً من نجاد، فقد أجاب الرئيس على رسالة أحد الزوّار بالقول «الكثير من الرسائل والخطابات التي يوجّهها لي أبناء الشعب الإيراني وزوار الموقع، تحوي مقترحات وتنبيهات بنّاءة أعتبرها موهبة إلهية تستوجب الشكر، وقد تضمّنت رسالة أحد الإخوة الأعزّاء في الرسائل الأخيرة تنبيهاً قيّماً عن رحلاتنا التفقّدية التي نقوم بها أنا والوزراء إلى محافظات البلاد. لقد تسبّب هذا الشاب في تغيير جذريّ وقيّم لرحلاتنا القادمة للمحافظات، وأتقدّم هنا بصفتي المندوب المنتخب من قبل أبناء الشعب الإيراني، بجزيل الشكر لهذا الشاب وأمثاله ممّن لا يبخلون بآرائهم البنّاءة عن الحكومة التاسعة للجمهورية الإسلامية، ولعلّهم لن يعلموا مدى ما تحمله خطاباتهم من إيجابيات للبلاد».
كما أن من الغريب في الأمر أن نجاد لم يستنكف من سَرده جزءًا من بُؤس حياته الخاصة، عندما عَمِل حدّاداً في ورشة جارهم يكبس الصفائح لقنوات التبريد لتأمين مصروفات الدراسة التي لم يستطع والده توفيرها له. كما أشار في ثنايا الحديث إلى فترة دراسته الجامعية وأوضاع زوجته عندما تركها متوجهاً للجبهة كناشط في القوات الخاصة في الحرس الثوري الإيراني (الباسدران) إبّان الحرب العراقية الإيرانية (1980 - 1988). في جانب آخر من مُدوّنته الشخصية، يطرح الرئيس تساؤلاً للزائرين: هل ترى في النظام السائد حالياً داخل منظمة الأمم المتحدة وممارسة حق الفيتو من قبل القوى العظمى ومنتصري الحرب العالمية الثانية نظاماً عادلاً؟ وعلى رغم أن النتيجة تكون شبه محسومة لمثل هكذا أسئلةٍ مُصاغةٍ بشكل يستبطن الإجابة عليها سلفاً، إلاّ أنك وعندما تُشارك في التصويت وتضطلع على النتيجة ترى أن 13 في المئة يُجيبون بنعم، بينما 87 في المئة يجيبون بلا.
ما يهمنا القول هنا، أن هذه السمات التي ارتبطت بشخصية الرئيس أحمدي نجاد هي بلاشك أعطته مزيداً من المقبولية لدى الشارع الإيراني، إلاّ أن الأكيد أيضاً هو أن تحريكها كحجر شطرنجي وحيد في خريطة اللعبة الداخلية والخارجية سيؤول إلى الاستهلال المتدرج مع مرور الزمن، لأن الحكومة التاسعة التي تخطّى رئيسها رقاب ستة من المترشحين معظمهم مُخضرمون بمشهد انتخابي صاعق لديها من الوعود ما يجعل احترامها للوقت مُقدّساً أكثر من أي شيء آخر. وعلى رغم ما قام به نجاد من صرف مبالغ شهرية لأكثر من مليوني طالب جامعي عاطلين ينتظرون الدخول إلى سوق العمل، وتوزيع جزء من أسهم الشركات النفطية الوطنية على شريحتين مُجتمعيتين صُنفتا على أنهما بحاجة لدعم قومي، إلاّ أن التعامل بعقل اقتصادي حكيم مع عوائد النفط المتعاظمة بفضل ارتفاع أسعار النفط وعدم المساس ما أمكن بما جَمَعَتْهُ إيران من عملة صعبة تجاوزت السبعة والخمسين مليار دولار في فترة قياسية، وتخصيصه لصندوق الأجيال... كلها تُشكّل المكاسب الحقيقية لأي حكومة، كما أن غرماء نجاد من الإصلاحيين مازالوا يتوثّبون لتجارب سياسية قادمة، وهم يرقبون المشهد المحافظ ولو بعين واحدة لتسجيل ما أمكن من نقاط على التجربة الأصولية وتوظيفها مُستقبلاً لمعارك انتخابية?
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 1564 - الأحد 17 ديسمبر 2006م الموافق 26 ذي القعدة 1427هـ