حتى الآن لم تتجاوب تل أبيب أو واشنطن مع التصريحات التي صدرت عن جهات رسمية في دمشق تدعوهما إلى التفاوض والقبول بتسوية متوازنة للقضايا العالقة في المنطقة. فمنذ توقف العدوان الأميركي - الإسرائيلي على لبنان في 14 أغسطس/ آب الماضي أطلق المسئولون السوريون خطابات ونداءات ملفتة تتحدث عن استعداد للتفاوض. وشكل الخطاب الذي ألقاه الرئيس بشار الأسد في 15 أغسطس علامة فارقة في هذا الصدد. فالخطاب المذكور وضع المبادرة في سياق إطاري حدد بموجبه الأسباب التي دعته إلى اتخاذ هذا السلوك. فهو مثلاً تحدث عن أن الحروب تحصل من أجل التفاوض وليس لخوض الحروب وبالتالي فإن على «إسرائيل» أن تتفهم هذه المسألة وتستفيد منها إذا كانت مقتنعة بضرورة تحقيق السلم. كذلك تحاشى في خطابه التهجم على الولايات المتحدة وانتقد بشدة فرنسا والرئيس جاك شيراك وقوى «14 آذار» في لبنان ودعا المقاومة إلى إسقاط حكومتها.
خطاب 15 أغسطس كان واضحاً في أهدافه، إذ حدد معالم استراتيجية بديلة بشرط أن توافق عليها واشنطن وتل أبيب. إلا أن ردود الفعل، المعلنة على الأقل، لم تكن على السوية نفسها. ولم تتجاوب مع خطاب النوايا الحسنة سوى تصريحات بسيطة ومتواضعة ومعزولة. الوحيد الذي قرأ الخطاب جيداً من الجانب الآخر كان وزير الدفاع الإسرائيلي عمير بيرتس وتجاوب معه بقوة وأطلق تصريحات واضحة في دعوتها العلنية إلى استغلال المبادرة والاستفادة من تلك الليونة. أما الحكومة الإسرائيلية فلم تكن مرتاحة بل تعاطت معها بشيء من السخرية أو التشكيك. حتى إدارة الولايات المتحدة اكتفت ببعض التعليقات السلبية ولم تظهر ذاك التعاطف المطلوب أو التعامل الايجابي مع دعوة تعتبر جريئة في مقاييسها النسبية. القليل من المسئولين في إدارة واشنطن اطلعوا على مضمون الخطاب أو على الأقل فهموا تلك الإشارات التي وردت فيه.
بعد خطاب 15 أغسطس جرت في الجدول الكثير من التصريحات والمقابلات والدعوات والنداءات التي تصب في الاتجاه نفسه وكلها تتلخص في مجموعة نقاط يمكن إيجازها بالآتي: نحن لا نحارب من أجل الحرب بل من أجل التفاوض والسلم. نحن جاهزون للبحث في القضايا العالقة بدءاً من الجولان وفلسطين ولبنان وانتهاء بالعراق. نحن مستعدون للمساعدة على إيجاد مخرج للأزمة في بلاد الرافدين. نحن مستعدون للنقاش على قاعدة القرارات الدولية وتحت سقف المبادرة العربية التي صدرت عن قمة بيروت.
كل هذه النداءات لم تجد الأصداء المطلوبة في الجانب الآخر وخصوصاً حكومة إيهود أولمرت التي ردت بإعلان المزيد من الخطوات المنغلقة والمتطرفة. وباستثناء وزير الدفاع كانت معظم التعليقات تتجه نحو إعادة استنساخ مواقف صهيونية معروفة. الجديد فقط صدر عن بيرتس الذي دعا مراراً حكومة تل أبيب إلى الانتباه إلى تلك المقاصد الجديدة التي وردت في النداءات السورية المتكررة... ولكن كعادة «إسرائيل» رفضت حكومة أولمرت الإصغاء أو حتى الاستماع إلى الإيقاعات المغايرة التي وردت مراراً وتكراراً.
حتى إدارة جورج بوش لم تكن مستعدة للتنصت أو تقبل المعاني السياسية لهذه اللغة الجديدة. وكل ما صدر عنها مجرد تعليقات باهتة تظهر عدم وجود رغبة أميركية في إعادة القراءة والنظر بدقة إلى تلك التفصيلات. فواشنطن اكتفت بأخذ العلم والخبر ولكنها لم تسارع إلى استدراك الأمر والتعامل بروح إيجابية مع تلك الدعوات. وكل ما قيل يقع في سياق المجاملة التي تفتقد المنطق أو ذاك التفاعل المطلوب مع نداءات تظهر نية حسنة بشأن مشكلات المنطقة.
الجهة الأميركية الوحيدة التي التقطت تلك الإشارات السريعة والمتقطعة كانت لجنة بيكر - هاملتون، إذ سارعت إلى الاتصال بدمشق وعقدت معها سلسلة لقاءات «إيجابية وبناءة» في نيويورك وبعض العواصم. إضافة إلى اللجنة صدرت تصريحات مبهمة عن «البيت الأبيض» تبدي تجاوباً مع استعداد دمشق للمساعدة في العراق ولكنها وضعت سقفاً سياسياً لذاك التفاوض المطلوب لمعالجة كل مشكلات المنطقة.
زوايا غامضة
هذا المشهد السياسي يمكن ملاحظته من خلال رصد الفعل وردود الفعل على الدعوات والنداءات السورية باعتبار أن المعلومات المتسربة عن الموضوع قليلة ومشوشة وما توافر منها ليس كافياً للبناء عليها ورسم تصورات للاستراتيجية المقبلة. الموقف السوري واضح في مشهد الصورة بينما الغموض يكتنف الجانب الآخر المتصل بردود الفعل الأميركية والإسرائيلية. والغموض دائماً يفتح الباب على احتمالين: الأول، وجود اتصالات سرية وجادة مع دمشق ولكنها لم تصل بعد إلى درجة من النضج تسمح بالإعلان عنها. والثاني، اقتصار التجاوب الأميركي - الإسرائيلي في حدود ضيقة ومتدنية لا تسمح للطرفين بالإعلان عن وجود تفاهمات ذات معنى. وفي الحالين لابد من الانتظار؛ لأن المسألة ليست سهلة وتحتاج فعلاً إلى قناعة أميركية - إسرائيلية بوجوب الانفتاح على دمشق بصفتها بوابة مرور لحل مشكلات المنطقة. وحتى الآن يلاحظ أن واشنطن غير مقتنعة بأهمية هذا الدور، كذلك تبدو تل أبيب في موقع مريح لا يضغط عليها للقبول بالتفاوض مع طرف لا يشكل خطراً على كيانها.
يمكن وضع الكثير من الأسئلة والأجوبة والتحليلات والاستنتاجات والتفسيرات ولكنها كلها تقع تحت بند الفرضيات وتحتاج كلها إلى معلومات وأدلة دامغة وحسية. وحتى تكتمل الصورة لابد من الانتظار لمعرفة المسارات التي تتجه نحوها الأزمات الإقليمية وكيف ستكون العناوين العامة التي ستخرج بها واشنطن على العالم في استراتيجيتها الجديدة.
حتى الآن تبدو معالم تلك الاستراتيجية غير واضحة في أولوياتها وآلياتها. فواشنطن تقول نعم ولا لإيران وسورية. فهي لا تمانع أن تساعد دمشق وطهران على حل المأزق الأميركي في العراق، وفي الآن تمانع أن تلعب العاصمتان دورهما في صوغ مستقبل المنطقة في ضوء المتغيرات المتوقعة. هذه «اللعم» أي اللا والنعم تتحكم بقوة في المسارات الأميركية. فالإدارة تعترف بوجود مأزق ومشكلات مزمنة يجب حلها في إطار اتفاق شامل ولكنها غير مستعدة للتعاون مع الأطراف المعنية بها والبحث معها في تحديد الوسائل المساعدة في هذا الشأن.
تشكل «اللعم» جوهر الغموض الذي يسيطر على توجهات إدارة بوش. فالإدارة مقتنعة بضرورة فتح ملف الجولان، ولكن كما يبدو من ظاهر الأمور أن حليفها (إسرائيل) يرفض هذا المنطق ولا يرى أن الجولان هو المكان المناسب للتفاوض مع دمشق.تل أبيب تفضل أن يكون لبنان هو مجال التفاوض لذلك تميل إلى تجميد ملف الجولان واستبداله بأمكنة أخرى. وهذا الاستبدال يحتاج إلى موافقة دولية (أوروبية) وعربية وإقليمية، وحتى الآن لم تظهر في خلفية المشهد تلك الصورة الواضحة التي تعطي ذريعة لواشنطن للقبول والموافقة.
الزوايا إذاً حادة ومعقدة ويمكن اختزالها في السطور الآتية: دمشق مستعدة للتفاوض وفتح كل الملفات. تل أبيب غير مستعدة ولكن لا مانع لديها إذا كان لبنان موضوع التفاوض لا الجولان. واشنطن غير مستعدة ولكنها لا تمانع إذا أرادت دمشق المساعدة على الحل، أن تفتح ملف الجولان أو لبنان. الاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية وربما روسيا والصين والكثير من الأطراف لا توافق على سياسة التعويض واستبدال الجولان بلبنان.
هذه الشبكة من الزوايا توضح مكمن المأزق الأميركي. فواشنطن تريد فتح القناة الدبلوماسية بشروط وتحت سقف المصالح الإسرائيلية. وتل أبيب لا تريد فتح القناة إذا كان الأمر يشمل ملف الجولان. وأوروبا ترفض أن يكون لبنان هو البديل. وأميركا حائرة بين تحالفها مع «إسرائيل» واعتمادها على أوروبا وحاجتها إلى مساعدة سورية الإقليمية. وهذه الحيرة دفعت الإدارة إلى تأجيل إعلان استراتيجيتها الجديدة حتى تتضح أمامها كل زوايا الصورة. والزوايا تحتاج إلى وضوح في الرؤية وحسم الخيار السياسي بين حليفها الإسرائيلي الذي يرفض أن يتنازل عن الجولان مقابل استعداد دمشق للمساعدة في العراق وبين الاتحاد الأوروبي الذي يرفض التضحية بلبنان والتفريط به في إطار مشروع غير واضح المعالم.
القرار النهائي تملكه واشنطن. فهل إدارة بوش مستعدة للتنازل عن لبنان، أم أنها في صدد فتح ملفات قديمة مقابل المساعدة، أم أنها تستعد للذهاب باتجاه المزيد من التجارب والمغامرات؟ كل هذه السياقات واردة ولكنها تحتاج إلى وقت للتعرف على خطوطها العامة في مطلع السنة المقبلة?
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1564 - الأحد 17 ديسمبر 2006م الموافق 26 ذي القعدة 1427هـ