فاجأني قارئٌ برأي جديد أشارك القراء في الاطلاع عليه، حين علّق على مقال «تشيلوك» بقوله: «حكاية تشيلوك التي ذكرتها لها أصول في التراث العربي، وقد قرأتها قبل أيام في كتاب (حكايات بهلول)... فأنا أتّهم شكسبير بالسرقة الأدبية»!
ولأن الرأي أثارني لخطورة التهمة على سمعة شكسبير، ولأنني من عشاق بهلول أيضاً، طلبت من صاحبنا إعارتي الكتاب، فبدأت قراءته ليلاً وأنهيته في الصباح.
الكتيب يقع في 53 صفحة، من الحجم الصغير، ويحتوي على 24 قصة، كلٌ منها عِبرةٌ أو طُرفة. قصة «المسلم واليهودي»، مشابهة تماماً لمسرحية شكسبير: مرابٍ يهودي يبتز تاجراً مسلماً على طريقة «تشيلوك»، ولم يخلّصه من ورطة الوفاء بدينه إلاّ تدخل بهلول، وبالطريقة نفسها: «إن قطعت من لحمه أكثر أو أقل من القدر المعيّن يُقتص منك بقدره»!
من أجمل قصص الكتيب قصة البهلول مع العالِم الشهير الجنيد، من أشهر متصوّفة بغداد، عُرف بالعلم والفضل، وقد جرى على ألسنة تلاميذه يوماً الحديث عن بهلول وأفعاله، فسأل الجنيد: من بهلول هذا؟ فقال بعضهم: «إنه رجل مجنون». فأعرب عن رغبته في لقائه. فطلبوه حتى وجدوه خارج المدينة، فقالوا له: «إن شيخنا يطلبك»، فأجابهم: «إن كان لشيخكم معي حاجةٌ فليأتِ هو إليّ». ولما أخبروا الجنيد بذلك قال: «إنَّ الحق معه». وذهب إليه فرآه في الصحراء واضعاً رأسه على حجرٍ وهو يتفكّر في الدنيا.
لما استقر به المجلس سأله بهلول: ما عملك؟ فأشار إلى تلاميذه وقال: «عملي تربية وهداية البشر»، فتبسّم بهلول وقال: «وهل تعرف آداب أكل الطعام؟» فأجابه بثقة: «نعم، أبدأ بذكر اسم الله، آكل من أمامي... لا أنظر إلى طعام الآخرين، أحمد الله، وأغسل يدي قبل الطعام وبعده». فنهض بهلول وقال: «كيف تهدي الناس يا شيخ وأنت لا تعلم آداب طعامك»؟ ففوجئ الجنيد بكلام بهلول، ولكنه تماسك وقال لتلاميذه: «لا أعتقد أنه مجنون، وحتى لو كان كذلك فلا بد من الاستماع لِما يقول».
سأله بهلول ثانيةً: «إذاً أنت لا تعلم آداب الطعام، فهل تعرف آداب الكلام»؟ فأجابه: «نعم، لا أتكلّم إلاّ بمقدار، وإن حدّثتُ الناسَ فعلى قدر عقولهم...»، فنهض بهلول وهمّ بالذهاب وقال: «أنت لا تعلم آداب الطعام ولا آداب الكلام».
واستوقفه مرةً أخرى، فقال بهلول: «ما حاجةُ من لا يعرف آداب طعامه ولا آداب كلامه معي؟ فهل تعلم آداب المنام؟». فقال الجنيد: «نعم، إن أتممتُ صلاة العشاء لبستُ ثوب النوم، و...»، فقاطعه بهلول: «إذاً... أنت لا تعرف آداب النوم أيضاً»! ثم نهض لينصرف، فتبعه الجنيد يترجّاه قائلاً: «أنا جُنَيدٌ البغدادي لا أعلم شيئاً، علِّمني ما تعلم لِما فيه رضا الله». فتبسّم بهلول ثم قال: «كنتَ تدَّعي العلم فابتعدتُ عنك، ولمّا أقررتَ بجهلِكَ فها أنا أُعلِّمُك. أمّا ما ذكرتَ من آداب الطعام فكلُّه فرعٌ، أما الأصلُ فأن يكون طعامُك من حلال، فإن لقمة الحرام لا تنفع معها مئات الآداب، فهي التي تُسوِّدُ القلبَ».
فرِح الجنيد بالعِظَة كالطفل البرئ، وواصل بهلول: «أما آداب الكلام، فلابد من طهارة قلبك وصفاء نيَّتِك، وأن يكون في كلامك طلب رضا الله، وأن تجتنب لغو الحديث فإنه يجرّ إليك يوم القيامة الويلات، ولا ينفع معه مئات الآداب».
هنالك نهض الجنيد من مكانه وجثا على ركبتيه أمام بهلول وقال: «إنَّ ما علمتني به لم أكن أسمعه من أحدٍ قبلك... أيها العزيز أخبرني ما آداب النوم؟ فأجابه بهلول: «ما كنتَ تعلمه فرعٌ، وأما الأصل فهو أن تفرّغ قلبك من حبّ الدنيا والحسد والبغض والعداء للمسلمين، وأن تلهج بذكر الله تعالى حتى تنام».
ثم نهض بهلول من الأرض فانحنى «العارف الكبير» على يدي «المجنون» ليقبِّلهما كما يفعل تلاميذ ذلك الزمان وقال: «علَّمتني الحق، فجزاك الله عني خيراً يوم الجزاء».
رحم الله الجنيد البغدادي، ورحم الله البهلول، وجزاه عنّا خير الجزاء?
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1563 - السبت 16 ديسمبر 2006م الموافق 25 ذي القعدة 1427هـ