التحليل النقدي لظاهرة محددة، من داخل منظومة فكرية معينة، مختلف تماماً عن تحليلها من خارجها. فالأول هو جزء من الظاهرة، ومعني بتقويمها وتطويرها. أما الآخر، فإنه منفصل عنها، وهو في أحسن الحالات، ينطلق من موقف نقدي حيادي.
الرحلة التي بدأنا بها منذ أكثر من عامين، تحت عنوان تجديد الفكر القومي، وحملت عناوين مختلفة، كالعروبة الجديدة وبين القومية والأمة، ومعنى الهوية، والهويات الجزئية والهويات الجامعة، هي في مجملها تأتي ضمن التحليل من الداخل، كونها تنطلق من التسليم بفكرة الأمة، وبأن وحدتها هي السبيل لخروج العرب من مأزق التخلف الراهن، والدخول في عصر كوني جديد سمته احترام الكرامة الإنسانية.
في هذا الحديث، نواصل رحلة السؤال، عن أسباب عجز المشروع القومي، عن تحقيق هدفه الرئيس المتمثل في الوحدة العربية. لماذا تكللت معاركنا، من أجل تحقيق الاستقلال الوطني بالنصر المؤزر، في حين عجزنا عن نقل شعار الوحدة من المثال إلى الواقع؟
هل كان إيماننا بالاستقلال، واستعدادنا لتقديم التضحيات الجسام من أجل تحقيقه أعلى من إيماننا بوحدة الأمة؟ الجواب كما تؤكده تجربة التاريخ، هو بنعم. فقد قدمنا قوافل من الشهداء على مسرح الحرية، كان للجزائر وحدها أكثر من مليون شهيد. توالت الثورات الوطنية، بعد سقوط السلطة العثمانية، وشملت مشرق الوطن العربي ومغربه. وتصدرت أسماء لامعة، قائمة القادة الذين قادوا معارك الاستقلال: عبدالكريم الخطابي، وعبدالقادر الجزائري، وعمر المختار، ويوسف العظمة، وأحمد عرابي وسعد زغلول وسلطان الأطرش، وإبراهيم هنانو، وصالح العلي، والقائمة طويلة.
على صعيد الوحدة، لم يبرز هذا الكم من القادة، الذين ناضلوا من أجل تحقيق الاستقلال. صحيح أن هتافات الوحدة ملأت الحناجر، في حقبتي الخمسينيات والستينيات، وكانت وحدة المشرق العربي، هدفاً أثيراً لدى زعماء النهضة، في مقاومة الهيمنة العثمانية، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ومطالع القرن العشرين، لكن النضال من أجل تحقيق هذا الهدف، تعثر على مشارف موقعة ميسلون، وتمكن الاستعماران التقليديان، البريطاني والفرنسي، من تطبيق اتفاقية سايكس - بيكو، ولاحقاً وعد بلفور، وقهر مشروع النهضة.
واقع الحال، إن تعثر مشروع الوحدة وانتصار معارك الاستقلال، يمكن إرجاعها إلى عوامل موضوعية، وذاتية. ففي ما يتعلق بالاستقلال الوطني، كانت هناك قوة دفع تاريخية، يمكن القول إن للتراكم النضالي دوراً أساسياً فيها. فمعارك الاستقلال، هي من جهة، استمرار للكفاح الذي بدأ ضد الأتراك، ومن جهة أخرى، فإنها أتت بعد الحرب الكونية الأولى، حيث بدأت الإمبراطوريات القديمة في التراجع السياسي والاقتصادي والعسكري، وذلك ما كشفته نتائج الحرب ذاتها، وذلك يعني بداهة، بروز دور القوى التي حققت النصر.
جاءت نتائج الحرب الكونية الثانية، لتحسم بشكل لا لبس فيه، هذه المقدمة، ولتبرز بوضوح استراتيجية الأميركان والسوفيات، في إزاحة الاستعمار التقليدي عن المنطقة العربية، تحت شعار الاستقلال وحق الشعوب في تقرير المصير. والهدف الكامن وراء ذلك هو وضع مناطق نفوذ الاستعمار القديم تحت هيمنة القوى الفتية الجديدة، بقيادة الولايات المتحدة، وليكون الاستعمار التقليدي تابعاً للقوة الجديدة، وتحت حماية مظلتها النووية.
وقد جاءت نتائج العدوان الثلاثي على مصر، ومواقف الأميركان والسوفيات من العدوان لتؤكد رغبة القوى العظمى الجديدة في إزاحة البريطانيين والفرنسيين عن مسرح الأحداث، وتسليم المفاتيح للقوة الصاعدة. وتلك بالتأكيد قوة دفع تاريخية لمصلحة حركة التحرر الوطني.
قوة الدفع التاريخية الأخرى، تمثلت في الحرب الباردة التي استثمرها المقاومون الوطنيون العرب بذكاء، وكانت عامل تسريع لإنجاح معارك الاستقلال.
لكن هذه الأسباب على وجاهتها، لا تقلل من شأن العوامل الذاتية. فلم يكن لمنطق الإزاحة أن يجد له أرضية مناسبة، لو لم تكن شعوب المنطقة على استعداد لتقديم التضحيات الجسام من أجل حرية واستقلال الأقطار العربية. كانت حركات التحرر الوطنية، من صنع شعوب هذه المنطقة، وقد أثبتت جدارة وكفاءة في إدارة معارك الاستقلال، واستفادت من قوة دفع التاريخ التي أتاحتها المتغيرات الدولية، والصراع بين القوى الكبرى.
حين تحقق الاستقلال، تكشف أن الوطنيين، الذين ناضلوا من أجل استقلال بلدانهم، انطلقوا من أرضيات مختلفة، وأن النصر المؤزّر قد أوجد كيانات جديدة، لكل منها نظمه الخاصة، وهياكله الخاصة، وتطلعاته الخاصة. غدا تشكيل الخريطة السياسية للوطن العربي، مختلاً ومشوهاً، لكنه أمر واقع، يصعب إلغاؤه، أو التنكر لوجوده.
وفي خضم ذلك، برزت زعامات وقيادات، تصدرت معارك الاستقلال، ونالت بجدارة موقع الزعامة، في الأنظمة الوليدة، رأت أن تحقيق الوحدة العربية، يحتم تنازلها وخسارتها، لصولجان السلطة. فاكتفت بالتنظير بدلاً من الممارسة، وأسعفتها المواقف الدولية، المناهضة لتحقيق وحدة الأمة العربية، في الاحتفاظ بمغانمها.
وكان الحل الوسط، بين الوحدة والتجزئة، الذي اختارته القيادات العربية، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، هو تشكيل جامعة الدول العربية. وكان المؤمل أن يشكل تأسيسها خطوةً على طريق تعضيد التضامن العربي، بما يقربنا من تحقيق حلم الوحدة. لكن ذلك للأسف، بقي أملاً مؤجلاً بعد ما يقرب من سبعة عقود.
هل تقدم هذه القراءة جواباً شافياً، عن المعضلة؟ يقيني أن الجواب صحيح، لكن المعضلة أكبر من ذلك بكثير، إنها تتناول الأحزاب والمنظمات والهيئات السياسية التي رفعت شعار الوحدة، وعجزت عن تحقيقه. كما تتناول ثقافة الاستبداد التي ألقت بثقلها على الواقع العربي، بأسره، وشملت القمم والسفوح، ولم تستثنِ أحداً، ومحاور أخرى جديرة بالقراءة والتحليل في أحاديث مقبلة.
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "العدد 3926 - الخميس 06 يونيو 2013م الموافق 27 رجب 1434هـ