العدد 3920 - الجمعة 31 مايو 2013م الموافق 21 رجب 1434هـ

تأسيس دلمون: الوقوف في وجه العملاق السومري

موقع قلعة البحرين الذي تأسست فيه مدينة دلمون الأولى
موقع قلعة البحرين الذي تأسست فيه مدينة دلمون الأولى

سبق أن ذكرنا في فصول سابقة أن هناك عدداً من الباحثين يرجحون أن الحياة الاجتماعية في سومر المبكرة كانت شبيهة بالنظام الاشتراكي، وكان الملك يعطى درجة دينية معينة (Kennedy 2012)، ومنذ بداية حقبة جمدة نصر في الجنوب الرافدي (3200 – 2900 ق. م.)، بدأت تحدث تغيرات اجتماعية واقتصادية انعكست على نظام الحياة الاجتماعية وكذلك مفهوم «الملك»، الذي بدأ يميل لأخذ الطابع السياسي بدلاً من الطابع الديني (Vacin 2001, p. 188).

ومن التغيرات الاجتماعية المهمة، الميل نحو زيادة نسبة خصخصة الأعمال، وإعطاء الجماعات العرقية، التي تتعايش ضمن بلاد سومر، استقلالية أكبر (Steinkeller 1991, 2004).

لقد ساهمت تلك التغيرات في إنعاش حركة التجارة، وقد تزامنت تلك التغيرات بعودة العلاقات مع الدويلات التي بدأت تتكون على سواحل الخليج العربي، وقد اكتسب الجنوب الرافدي أهمية كبيرة في تلك الحقبة حيث أصبح منطقة «العبور» الرئيسية لجميع البضائع التي تصل لبلاد الرافدين عن طريق البحر.

وقد كانت هناك علاقات مباشرة بين الجنوب الرافدي وكل من وادي السند ومگن ودلمون. هذه الحركة التجارية النشطة في الجنوب الرافدي أدت لتطور النظام الاقتصادي في المنطقة، وكذلك لتوافد العديد من العرقيات المختلفة، مما أدى لظهور طبقات مختلفة من السكان كالتجار والوسطاء والمترجمين والحرفيين المتخصصين، وبذلك أصبحت هناك جماعات متثاقفة تحمل فكر تجاري مميز.

أخذت قوة الجماعات العرقية التي تعيش ضمن سومر أو بالقرب منها تتعاظم، وبدأ بعضها يهاجر ليكون لنفسه دويلة مستقلة، وبدأ بعضها يفكر في السيطرة على سومر.

لا نعلم كم ثورة أو تمرد حدث للسيطرة على سومر، إلا أن المشهور هي ثورة سرجون الأكدي (2340 – 2280 ق. م.) الذي استطاع أن يسيطر على سومر، وأن يغيّر من النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وبدأ التغير الواضح نحو الرأسمالية (Heinz 2007).

يذكر أنه تزامناً مع ثورة سرجون الأكدي بدأت دولة دلمون تتأسس في البحرين في موقع «قلعة البحرين» الحالي، كذلك فإن دلمون التي تأسست في البحرين هي في واقع الأمر عملية استنساخ للجنوب الرافدي، ليس في الهوية والشكل، وإنما في الموقع التجاري كوسيط ومنطقة «عبور» تجارية.

هذه الصورة لم تكن واضحة في حقبة تأسيس دلمون ولكن في طور النضج أصبحت دلمون – البحرين القوة التجارية الرئيسية في الخليج العربي (Olijdam 2000)، ولكن كيف تحقق لها ذلك؟

دلمون والمعادلة الصعبة

تقاس عظمة الحضارة بحسب وجود التنظيم الاجتماعي ومدى تعقيده وتوحده تحت قيادة مركزية واحدة، وبوجود نظام اقتصادي واضح له نظام إداري وأدوات معينة كالأختام والأوزان والمعايير الأخرى المختلفة، وإن وجود موارد طبيعية في دولة ما، لا يعبر عن مدى قوتها التجارية، بل إن نوعية استغلال هذه الموارد ونوعية المواد المصدرة هي التي تحدد ذلك.

وبالتدقيق في الحقبة التي تأسست فيها دلمون في البحرين لا نجد أياً من المقومات السابقة كان يوجد في البحرين. لقد كانت دلمون عبارة عن قرية صغيرة تتكون من بيوت صغيرة متجاورة بنيت في موقع قلعة البحرين، إلا أنها سميت تجاوزاً «مدينة»، فكانت هناك المدينة الأولى، ثم توسعت هذه «المدينة» في الفترة اللاحقة لتصبح «مدينة مسوّرة» لا تتعدى مساحتها 41.7 هكتاراً، وقد قدر أقصى عدد لسكانها بقرابة 45900 نسمة (Larsen 1983, pp. 47, 196).

هذه المساحة الصغيرة لا يمكن أن تقارن بمساحة بلاد الرافدين، في نفس الحقبة الزمنية لتوسع دلمون، والتي بلغت 2725 هكتاراً، وقدر سكانها بقرابة نصف مليون نسمة (Adams 1981, pp. 142, 149).

كذلك لا يمكن أن نقارن مساحة دلمون بمساحة مگن (في الإمارات العربية وسلطنة عمان)، والتي كانت تتميز بوجود مناجم النحاس، وكانت تتميز أيضاً بمساحتها وطول سواحلها، وقربها من حضارة وادي السند، وعلاقاتها التجارية بين وادي السند والحضارات الأخرى المختلفة التي قامت في إيران.

أضف إلى ذلك أن حقبة أم النار (2700 ق. م – 2000 ق. م.) تميزت بثقافة واضحة ذات هوية مميزة، وقد اعتبرت ثقافة «أم النار» من أولى الثقافات التي نشأت على ساحل الخليج العربي، والتي أسست لنفسها ثقافة خاصة بها تميزت في نوع الفخار وطريقة البناء وطقوس الدفن وبناء القبور (Potts 2005).

سر ازدهار دلمون التجاري

مما سبق، نلاحظ بوضوح الموارد القليلة في البحرين التي يمكن استغلالها لتكوين دولة تنافس تلك الدول المجاورة لها. ويبدو أن السر في الجماعات المؤسسة لدلمون، بلا شك أن المؤسسين كانوا على درجة عالية من الثقافة والدراية بأنظمة التجارة؛ فاختاروا جزيرة البحرين، لبعدها عن البر الرئيسي الذي أصبح ملاذاً لعددٍ من الجماعات التي بدأت تفر من التغيرات البيئية والجفاف الذي بدأ في المناطق المجاورة (Zarines 1986)، وكذلك لموقعها الاستراتيجي في الخليج العربي. وما أن استقر الدلمونيون الأوائل في البحرين حتى بدأوا باستنساخ أنظمة تجارية واجتماعية من الحضارات المجاورة وتطويرها، فطقوس الدفن وطريقة بناء القبور أخذت عن ثقافة أم النار، حتى طرق البناء، فمعبد باربار الثاني بني بهندسة سومرية ولكن بطريقة بناء شبيهة لطريقة البناء في ثقافة «أم النار»، والبعض يرى أن الصخور التي بني بها المعبد جلبت من أم النار (Doe 1986).

أما في ما يخص النظام التجاري فقد استعملت دلمون نظام الأوزان الخاص بحضارة وادي السند إلا أنه اشتهر بين الثقافات المجاورة باسم دلمون (Bibby 1986)، أما الأختام فقد تم تطويرها بحسب نموذج أختام حضارة وادي السند (2010 Laursen). ولم تكن دلمون حينها تمتلك موارد اقتصادية كغيرها، إلا أنها قامت باستغلال موارد الآخرين، فحضارة مگن التي تأسست قبل دلمون بمئات السنين وكانت أحد مصادر النحاس المهمة لبلاد الرافدين إلا أنها لم تكون لنفسها نظاماً تجارياً، فليس لها أوزان وليس لها أختام خاصة.

ومنذ أن تأسست دلمون لم يكن هناك أية علاقات مباشرة بين الجنوب الرافدي ووادي السند أو مگن، بل أن العلاقات أصبحت مباشرة مع دلمون التي لعبت دور الوسيط التجاري (Crawford 1996).

لذلك، على نقيض ما ذكرنا في الفصل السابق من أن البعض يصنف دلمون على أنها امتداد لثقافة أم النار (Vogt 1996)، فعند التدقيق في العلاقات التجارية فإن حضارة مگن تمثل العمال الذين يعملون عند دلمون الوسيط التجاري لبلاد الرافدين (Ratnagar 2001)... يتبع.

العدد 3920 - الجمعة 31 مايو 2013م الموافق 21 رجب 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 10:36 ص

      جميل التعرف على التاريخ السومري

      اتمنى الحصول على نسخه من تاريخ البحرين قديما من الوسط

اقرأ ايضاً