العدد 3919 - الخميس 30 مايو 2013م الموافق 20 رجب 1434هـ

معايير لضبط الثورات والحراكات العربية

علي محمد فخرو comments [at] alwasatnews.com

مفكر بحريني

المتتبع للكتابات الناقدة الحديثة في حقول السياسة والاقتصاد والاجتماع، ولكثيرٍ من المؤتمرات الدولية بشأن قضايا تلك الحقول، يلاحظ الاهتمام المتزايد بموضوع ضرورة عودة القيم الأخلاقية لتكون المعيار الذي يحتكم إليه عند مواجهة ومعالجة المشاكل المستعصية في تلك الحقول.

إنه ردُّ فعل طبيعي على الانجراف المجنون نحو إبعاد القيم الأخلاقية الإنسانية أو تهميشها، بل وممارسة كلّ ما هو ضدٌّ لها، في كثير من النشاطات البشرية في العصور الحديثة. إنه وعي جديد مقاوم لما جاءت به من أهوال وفواجع الممارسة المكيافيلية في السياسة، والأنانية المتوحشة الظالمة للرأسمالية العولمية ولليبرالية الحديثة في الاقتصاد، والإفراط العبثي في ممارسة الفردية الجامحة غير المرتبطة بعلاقة التزام إنساني أخلاقي تضامني تجاه العائلة والمجتمع والوطن والعالم، وحتى تجاه بيئة المخلوقات غير البشرية.

وفي الحال يطرح السؤال التالي نفسه: وماذا عن مجتمعات بلاد العرب؟ ألم تكن قيم المكيافيلية القائمة على الخداع والأنانية والتفرّد هي السائدة في الأنظمة السياسية العربية المتسلطة الفاسدة عبر القرون؟ ألم يكن الاقتصاد العربي الرَيعي القائم على توزيع الثروة على أسس الولاء والزبونية للحاكم والمقرّبين منه، بعيداً عن العدالة في التوزيع والمكافأة، هو الذي ميّز الحياة الاقتصادية العربية عبر العصور؟ وإذا كان الغرب قد اشتكى من جموح الفردية المفرط في الانغلاق على الذات، ألم تمارس المجتمعات العربية العكس من خلال سطوة المجتمعات على الفرد وخنق حرياته الشخصية المشروعة ومنعه من الخروج على أيٍّ من العادات والتقاليد حتى ولو كانت باليةً وغير منطقية؟ ألم تتمادَ تلك السطوة المجتمعية على الأخص بالنسبة للمرأة العربية لتحيلها إلى مخلوق هامشي خارج الحياة العامة ومن أجل المتعة فقط؟

فإذا كان ما حدث في الغرب وغيره، نتيجةً منطقيةً لغياب القيم الأخلاقية من نشاطات المجال العام فإن الأمر ذاته حدث في أرض العرب وكان أحد أهم أسباب التخلف الحضاري الذي نعيشه الآن.

مناسبة الخوض في هذا الموضوع وضرورة طرحه بقوة للنقاش، هو الحراك الثوري والإصلاحي الكبير الذي يموج في الوطن العربي كله. فإذا كان ذلك الحراك يهدف إلى إجراء تغييرات كبرى في حقول السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة، فإن ذلك كله سيكون جهداً ضائعاً على المدى الطويل إن لم يعط اهتماماً كبيراً للجانب القيمي لإحداث كل ذلك التغيير. ذلك أن الحديث عن المعايير التي ستحكم تلك التغييرات يجب أن يبدأ الآن، وخصوصاً بعد أن أبانت العديد من التجارب العربية خلال السنتين الماضيتين من عمر حراكات الربيع العربي أنواعاً ومظاهر مفجعة من غياب القيم الأخلاقية في ممارسات بعض القوى السياسية.

دعنا نذكر مثالاً واحداً صارخاً... لقد انتهت بعض الثورات والحراكات الجديدة بتسلم السلطة من قبل بعض جماعات الإسلام السياسي في بعض الأقطار العربية. وكان منطقياً أن ينتظر الناس من تلك الجماعات أن تلتزم بصرامةٍ وشفافيةٍ وصدقٍ، بقيم الإسلام الأخلاقية في جميع تعاملاتها مع السياسة ومع متطلبات الحكم. ولا يحتاج الإنسان لذكر القائمة الطويلة من القيم الأخلاقية الكبرى التي جاء بها الإسلام. لكن الإنسان فوجئ بأن خمرة السياسة المكيافيلية لعبت بالرؤوس، وإذا بقيم من مثل الصدق في النية والعمل، ومن مثل القسط والعدالة حتى مع ذوي القربى ومع النفس، ومن مثل التعاضد والتفاهم والتسامح فيما بين مكوّنات الجماعات الإسلامية السياسية، وغيرها كثير... إذا بكل تلك القيم التي حصلت على شرعيتها في الحياة الإنسانية عن طريق الوحي الإلهي منذ قرون عربية طويلة، ترتبك ويتلاعب بها من هذه الجهة أو تلك.

فإذا كان المصدر الإلهي لتطبيق القيم الأخلاقية لم يُؤبَه به من قبل البعض، ولا نقول الكل فنظلم أحداً، فما بالك بالأخذ بالمصادر الأخرى من مثل القانون الطبيعي ونتائج الدراسات السوسيولوجية الكثيرة، والمصالح المجتمعية المشتركة والايديولوجيا الإنسانية، بل حتى الحدس الإنساني البحت؟

إذاً لابدَّ من جعل النقاش القيمي الأخلاقي جزءاً أساسياً من الحياة العامة العربية الآن وفي الحال. فإذا كنا نريد من الثورات والحراكات أن تقود إلى تقدم نهضوي عربي شامل، فلنطرح بقوة موضوع المعايير التي ستحكم ذلك النهوض، المعايير المجتمعية والفردية على السواء. ولنبدأ أولاً بالنقد الشديد للأشكال السوداء البغيضة من المعايير التي سادت الحياة العربية عبر العصور، ولكن بالأخص إبّان الحياة العربية المعاصرة.

لقد فجعت الأمة في عصرها الحديث بأناس ينادون بالوحدة العربية وهو قطرِيون حتى النخاع، وبوحدة الإسلام وهم طائفيون مبتذلون، وبالتسامح والتعايش المشترك وهم يهمّشون أتباع الديانات الأخرى، وبالعدالة وهم فاسدون ناهبون للثروات العامة، وبالديمقراطية وهم مستبدون في بيوتهم ونواديهم وأحزابهم. إنها لعبة إقصاء القيم الأخلاقية وتشويهها. إنها لعبة الكذب على النفس وعلى الآخرين، بل وحتى محاولة الكذب على الله، تعالى عمّا يفعلون.

إقرأ أيضا لـ "علي محمد فخرو"

العدد 3919 - الخميس 30 مايو 2013م الموافق 20 رجب 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 10 | 9:30 ص

      القيم

      أن قضية القيم وتطبقها تحتاج إلى فهم صحيح ودقيق للحالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في تلك المجتمعات المعنية ،فالقيم لا يمكن أن تؤس خارج الضوابط والمعايير المطلوبة لبقائها ، فمثلاً ترسخ العلاقات في مجتمعاتنا العربية من خلال احترام وتطبيق هذه القيم ضمن إطار القانون وشروط ومتطلبات الدولة الحديثة وترسيخ الوعي المجتمعي على هذا الأساس يؤسس قاعدة إنسانية حديثة ومتطورة لبعض ثوابت وأولويات هذه القيم ..مع التحية.. س. د

    • زائر 8 | 3:43 ص

      مقالات روعة

      شكرا على مقالاتك التنويرية يا دكتور فانت من الشهود على العصر.

    • زائر 7 | 2:52 ص

      صاغت ذهب ومعايير طواش جديده

      بعد رحيل الجنرال هندرسون إيان ووصول جنرالات امريكان، كأنها منطقه تحتاج الى إزالت تأثير البيت الأبيض على البيت الخليجي القديم وتعميره على أسس عيونيه مثل مملكة العيونيون أو كما سماها البحثون ديمقراطيه يونانيه إسلاميه، ونصحت الامم المتحده ألأخذ بكلام على (ع) وبالاخص في إختياره وإنتقاءه للكفاءه وليس بالاقتراع. فالقوي الامين، أمانه و صدق نيته منعكسه على عمله وإخلاصه وتفانيه في خدمة مجتمعه وليس جماعته. هذا يسمونه مجتمع إشتراكي علمي شيوعي . أليس العدل يحتاج قانون ينظم المجتمع كما في الاسلام في ديمقراط

    • زائر 6 | 2:39 ص

      مضفر النواب قال عرب أو أعراب ما ندري

      قد يكون نفاق وكذب وافتراء على الناس وقول الزور عند بعض الناس مباح أومجامله، بينما الاحترام سيد الأخلاق ورئيسها.. وإنما الامم الأخلاق.. فمتى ما كان تدني مؤشر الحريه والعدالة في المجتمع لا تعترف لا بحسن معامله بل تعمل بسوء المعامله بمقياس رختر ومؤشر داوجونس في السوق الحره. هذا هبوط حاد وتدني أخلاقي من الدرجات الممتازة ولا أحد ينكرها..أليس من الواجب أيقاف فوري لجميع مظاهر التسلح والرجوع الى المرجع الدستوري الشرعي وليس المرسوم خارج الدستور صوري وأقرب الى قول الزور منه الى الحقيقي.

    • زائر 5 | 2:31 ص

      حرية معايير ومعاير حره بمقاييس بأوزان مختلقه

      يعتمد أو يعتقد أو متأكد .. فما دام معايير حره من بلد تمثال حريه يمكن ولا يمكن الإدعاء ومعايرة الحرية بالديمقراطيه .. طغوا وتجبروا أقرب، لكنهم لا يقولون بذلك. ... ودستور البحرين يقول إسلام وديمقراطيه ما في بس في دكتاتوريه على الطريقة البيروقراطيه الأمريكيه. مخالفة شرع أو دستور ما تنعرف.. هل هذه معايير ومقاييس وأوزان مستحدثة حديثا للحديث عن حوار منذ بدأ حراك الدوار؟

    • زائر 4 | 1:19 ص

      المعيار

      أن قضية القيم وتطبقها تحتاج إلى فهم صحيح ودقيق للحالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في تلك المجتمعات المعنية ،فالقيم لا يمكن أن تؤس خارج الضوابط والمعايير المطلوبة لبقائها ، فمثلاً ترسخ العلاقات في مجتمعاتنا العربية من خلال احترام وتطبيق هذه القيم ضمن إطار القانون وشروط ومتطلبات الدولة الحديثة وترسيخ الوعي المجتمعي على هذا الأساس يؤسس قاعدة إنسانية حديثة ومتطورة لبعض ثوابت وأولويات هذه القيم ..مع التحية.. سعيد دلمن

    • زائر 3 | 12:45 ص

      عبقرية التعبير

      (خمرة السياسة المكيافلية لعبت بالرؤوس). تعبير اكثر من عبقري. لا حرمنا الله من هكذا عقول

    • زائر 2 | 11:54 م

      رائع

      انه ليس اسلام فقط كان الحكام يئتمرون من اسيادهم والان بأسم الاسلام ينفذون مايأمر منهم من عبدت الذهب علي شكل علماء يفتون علي هواهم فيقبضون الكثير ويوزعون للمنفذين الجهلاءالقليل ، اما موضوع المراء فالاسلام كرمها وعززها لانها هي الام والاخت والمربيه ولم تكتفي بذلك حتي وصلت الي الابداع في شتي المجالات

    • زائر 1 | 11:07 م

      المنطق

      ينفع المنطق و العقل فى الحوار، عندما تكون تريية الأفراد مبنية عليها. عندما نجد السوط يلامس الجسم منذ الصغر فى البيت ثم المدرسة و بعده فى الحياة العامة و تكون القوة هى الحق، المنطق و المقبول، كيف يمكن أن نتوقع من الناس رد فعل دون إستعمال القوة. عندما نطبق :""لابدَّ من جعل النقاش القيمي الأخلاقي جزءاً أساسياً من الحياة العامة العربية "" يكون لكل حادث حديث. قابلنى بعد مليون سنة!!!!!!!!!!!

اقرأ ايضاً