في العام 1974 نشر Wallerstein في كتابه «The Modern Word-system» نظرية «نظام العالم» أو «النظم العالمية» والتي تعتبر «أن العالم مندمج في منظومة اقتصادية واحدة مكونة من مركز وأطراف قائمة على أساس الاستقطاب المتزايد داخل النظام الرأسمالي العالمي الواحد».
فالمركز ينهض بدور التحكم الاقتصادي، وهيمنة رأس المال سياسيّاً واقتصاديّاً على المحيط أو «الأطراف» أو المناطق الهامشية في هذا النظام.
و»تسعى حركية النظام الداخلية إلى إبقاء هذه الأطراف على حالها من التهميش، والحيلولة بينها وبين الاستقلال أو التنمية الحقيقية».
وهناك أيضاً شبه المحيط وهي المناطق التي تحمل ملامح المناطق الفقيرة والملامح الغنية وهي تعمل كوسيط في عمليات استغلال المركز للمحيط (أسد 2008 وحافظ 2013). وقد تم تطبيق مفهوم تلك النظرية على الحضارات القديمة وخصوصاً لحضارات العصر البرونزي؛ حيث استخدمت مفاهيم هذه النظرية لشرح شبكة الاتصالات بين المناطق الجغرافية القديمة، وكذلك ما يترتب على تلك العلاقات من نتائج تجارية على كل من المركز والأطراف، وفي الغالب لا يتم اتباع تحليلات Wallerstein بحذافيرها (Gregoricka 2011، p. 140 - 141).
وسبق أن ذكرنا، في فصول سابقة، أن عدداً من الآثاريين يحاول تبسيط نشأة الدويلات التي قامت على ساحل الخليج العربي في الألف الثالثة قبل الميلاد وذلك من خلال تطبيق نموذج تصبح على أساسه هذه الدويلات مجرد «فروع» أو «أطراف مهمشة» لدولة مركزية واحدة، هي سومر، عندما كانت في ذروة توسعها أي أوروك أو حقبة جمدة نصر (3200 – 2900 ق. م.). ويرى Potts أنه لا يوجد في العصر البرونزي أي منطقة يمكن وصفها بأنها «المركز»، وأن مناطق أخرى هي محيط أو «أطراف مهمشة»، فالعلاقات التي نشأت في تلك الحقبة بين المناطق المختلفة لا يمكن أن تحلل بنموذج مبسط مثل نموذج المركز / المحيط (Gregoricka 2011, p. 343). لكن، حتى وإن لم يصرح الباحث بأنه يستند إلى نظرية الأنظمة العالمية؛ فإنه في واقع الأمر، يطبق مفاهيم مشابهة لها، وإن كان بصورة ضمنية.
وسبق أن ذكرنا في الفصل السابق أن تشابه نموذج بناء معابد باربار مع المعابد السومرية أدى بالبعض إلى الزعم على أن هذه المعابد بنيت في حقبة جمدة نصر. بالطبع هناك أدلة تثبت أن هذه الدويلات ليست «أطرافاً» للدولة المركزية، بل هذه الدولة لها هوية مستقلة عن المركز وقد طورت لنفسها ثقافة معينة خاصة بها.
ومن أولى الدويلات التي نشأت على ساحل الخليج العربي والتي أسست لنفسها ثقافة خاصة بها وواضحة هي ثقافة أم النار (في دولة الإمارات العربية وسلطنة عمان) (2700 ق. م – 2000 ق. م.)؛ هذه الثقافة، حتى وإن تأثرت بثقافات وادي السند والثقافات التي قامت في إيران ووسط آسيا بالإضافة إلى ثقافة بلاد الرافدين، إلا أنها طورت لنفسها ثقافة خاصة تمثلت في طريقة البناء الخاصة بها وبتطوير نوع خاص من الفخار وكذلك تميزت بطريقة بناء قبور معينة (Potts 2005).
دلمون وأم النار
عمليات التنقيب أو «البحث عن دلمون»، التي بدأت منذ نهاية القرن التاسع عشر، سبقت عمليات التنقيب في المناطق الأخرى في الخليج العربي (Rice 1983)؛ لذلك كانت الدراسات الأولى لا تربط دلمون - البحرين بثقافات أخرى في الخليج العربي بل تربطها بوادي السند وبلاد الرافدين.
وبعد الدراسات التي نشرت عن ثقافة أم النار بدأت المقارنات تُعقد بين دلمون وأم النار. فأم النار جزء من حضارة «مكن» حيث مناجم النحاس التي تصدر لبلاد الرافدين عن طريق البحر، وكانت دلمون - البحرين تتوسط الطريق بين مكن والجنوب الرافدي. وبعد أن تم الكشف على أن نسبة كبيرة من الفخار الذي يوجد في المدينة الدلمونية الأولى في قلعة البحرين هو فخار ثقافة «أم النار»، تم إيجاد الرابط بين دلمون وأم النار، فاقترح Bibby أن هذه المدينة أو بالمعنى الأصح القرية؛ لأنها عبارة عن عددٍ من البيوت غير المسورة، قد تكون محطة أسسها تجار ينتمون إلى ثقافة أم النار لتسهيل عملية التجارة بين مكن والجنوب الرافدي (Bibby 1986).
أما Vogt فقد ذهب إلى أبعد من ذلك حيث اعتبر أن دلمون الأولى التي قامت في البحرين ما هي إلا امتداد لثقافة أم النار (Vogt 1996). لم يكن الفخار هو الرابط الوحيد بين دلمون وأم النار، بل إن هناك شواهد أثرية أقوى من الفخار، ألا وهي نموذج بناء القبور الذي ظهر أولاً في ثقافة أم النار ثم ظهر في دلمون.
قبور أم النار في البحرين
عندما تم تقسيم تلال القبور في البحرين على أساس زمني، تم تقسيمهم إلى قسمين رئيسيين، تلال القبور المبكرة وتلال القبور المتأخرة (Lowe 1986). وتعتبر تلال القبور المبكرة، التي عرفت أيضاً باسم قبور أم النار، موازية لفترة المدينة الدلمونية الأولى في قلعة البحرين، وتحديداً فإن تاريخها يعود إلى حقبة ما بين (2200 – 2050 ق. م.)، ويبلغ عددها قرابة 28000 تل منتشرة بصورة أساسية في الرفاع ومدينة حمد وكرزكان ومناطق أخرى (Laursen 2010 and Lowe 1986). هذه القبور يتشابه بناؤها مع نموذج بناء القبور في ثقافة أم النار، وكذلك عثر في هذه القبور على فخار خاص بثقافة «أم النار» يعود إلى فترات زمنية مختلفة (Laursen 2009). وبالتالي فإن المدينة الدلمونية الأولى وكذلك تلال القبور المبكرة التي تعود إلى حقبة المدينة الأولى تأثرت كثيراً بثقافة أم النار.
وتتميز تلال القبور المبكرة في البحرين والتي عرفت باسم «تلال قبور أم النار» عن تلال القبور المتأخرة التي تحمل هوية ثقافة باربار أو دلمون - البحرين. حيث تتميز تلال القبور المبكرة بانخفاض ارتفاعها ومظهرها المستوي، ويميل شكلها على عدم الانتظام. ويتكون القبر من جزء أساسي هو حجرة اللحد حيث يوضع الميت، وتكون هذه الحجرة إما بيضاوية أو مستطيلة أو مربعة الشكل وليس لها غطاء علوي حيث تترك مفتوحة. ويحيط بغرفة اللحد جدار مستدير من الحجارة، ويتم ملء الفراغ ما بين الجدار الدائري وغرفة اللحد بالحجارة والتي تتخذ أشكالاً مختلفة (Lowe 1986).
أما طرق الدفن فهي موحدة في الخليج العربي وبلاد الرافدين مع وجود اختلافات بسيطة؛ ففي البحرين يوضع الميت في غرفة اللحد ممدداً على جانبه الأيمن موجهاً رأسه إلى الشمال الشرقي، وعادة ما تثبت يداه مقابل وجهه أو تحته مباشرة، ويعثر في الغالب إلى جانب الهيكل العظمي على عظام غنم وماعز عليها علامات حرق أو جرح (بوتس 2003, ج1: ص 340) ... يتبع.
العدد 3913 - الجمعة 24 مايو 2013م الموافق 14 رجب 1434هـ