ثمة ما يستفزك في معرض الفنانة التشكيلية فريال الأعظمي المقام حاليّاً في عمارة بوزبون في المحرق، استفزازاً إيجابيّاً بكل تأكيد. بدءاً من العنوان الذي اختارته لمعرضها «درويش كيف أتلو عنك... وأنت بمحراب الشعر إمام» وصولاً إلى الموقع الذي اختارت أن تقيم فيه معرضها.
المعرض المقام ضمن فعاليات مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث «القلب هو مكان المقاومة الحقيقية»، في عمارة بوزبون، يضم 24 عملاً من أعمال الخشب، وعمل سيراميك واحد. وتتضمن اللوحات بعض قطع الديكور، والقماش، ومواد أخرى.
ما سيدهشك هو أن كل ما في المعرض يبدو على درجة عالية من الانسجام، مع هذا العنوان. موقع عمارة بوزبون سيجعل زيارة المعرض لا تشبه أية زيارة لأي معرض آخر. يجب عليك اجتياز شارع يغص بالذكريات ما سيجعلك محملاً بكثير من الحنين للماضي الذي عشته وذلك الذي سبقك، حتى قبل أن تصل إلى المعرض. يعبق الزقاق الذي ستعبره بروائح سوق المحرق القديمة ويمتلئ بالدكاكين التي حافظت على وجوهها، ربما ليس وجوه أصحابها، لكن ملامحها المتسقة مع عبق المكان وروحه.
ستصل أخيراً إلى المنزل الذي يشي كل ما فيه بالحب والحنين ذاتهما إلى الماضي الذي تحاول الأعظمي أن تقدمه من خلال أعمالها المعروضة. عمارة بوزبون حافظت على لمسات الماضي فيها، وصممت بشكل يحرض على كثير من الحب ويستفز كل مشاعر الحنين الذي تمتلئ به لوحات فريال.
والفنانة لا تنكر استفزازها لرواد معرضها، بل تؤكد أنها هي الأخرى استفزت لتقدم هذا المعرض ولتبدع الأعمال الرائعة التي غطت الساحة المفتوحة في عمارة بوزبون.
تقر فريال بأن ثيمة الحب التي طغت على معرضها، لم تكن سوى نتاج استفزاز لذاكرتها وللحنين الذي يثقل رأسها للعراق. استفزتها كلمات الشاعر الفلسطيني محمود درويش، فجعلتها نقطة انطلاقها. هذا الشاعر الذي كان واحداً من أكثر ممن احتفوا بالحب والوطن والأم، وجميعها مترادفات للحب، هو الأساس الذي تحركت منه وهو مصدر إلهام معرضها هذا.
تقول فريال «اخترت بطلاً يقدم ملحمة الوطن والحب وكان هو درويش الذي لم أتردد لحظة في اختيار أشعاره بما فيها من حالات عميقة تليق بجمهوري الذواق».
وتواصل «من يقرأ لدرويش تسافر به الذاكرة مباشرة إلى صدر الأم، وقهوة الأم، وخبز الأم، وحيث تكون الأم يكون الوطن والحنين الدائم، لهذا الوطن الذي لا ينتهي بفعل الزمن ولا يسقط بالتقادم».
«درويش ليس مجرد قصيدة وحروف نثر، درويش حالة حب عميقة، حدثت في مكان ما، وفي زمان ما، نحن نفتقدها في هذا الزمن، الذي بات الحب يأتي بسرعة الضوء، وينتهي بوقت أسرع لأن مشاعر هذا الزمن أجدها ليست عميقة».
اعتمدت فريال على استفزاز الذاكرة فجاء الناتج مخطوطات وحروف متناثرة بأناقة عالية على خشب غطته في بعض الأعمال بقماش كانفاس وربما تكون أضافت بعض قطع الديكور المعبرة عن جوهر الكلمات التي اختارتها في بعض اللوحات.
تملأ تلك الأعمال المكان حيوية وحبّاً بألوانها الدافئة وتركيباتها الأنيقة وتكون جملاً تختصر تلك الحروف المتناثرة ـ يمكن للمتأمل أن يعيد تكوين تلك الحروف ليصل إلى جملة الحنين، تلك التي اختارتها فريال من أبيات درويش وذيلت بها لوحاتها المعلقة على جدران عمارة بوزبون.
تقول فريال: «قمت أولاً باختيار ما حركني واستفز ذاكرتي من أشعار درويش، لم تكن تلك عملية سهلة، بل تطلبت بحثاً مضنياً وطويلاً. بعدها كتبت تلك الأبيات في قصاصات وزعتها في جميع أرجاء مكتبي، لأصمم على أساسها لوحاتي. عنوان المعرض وحده استغرق مني ثلاثة أشهر لأستقر عليه».
وكما لدرويش فلسفته الشعرية في الحب وشفافية الألوان، كذلك هي الأعظمي التي تتعاطى مع الألوان في لوحاتها باعتماد فلسفة خاصة بها، تقول: «جعلت لنفسي فلسفة الألوان المتضاربة والصارخة واخترت الفلسفة العفوية والبسيطة؛ لأنها أقرب إلى الروح من تلك الفلسفات المعقدة».
الفلسفة التي تعنيها فريال هي تلك التي تجعلها توزع اللون في لوحاتها «بضربات الريشة على جسد اللوحة الصامتة بشكل متسق مع الضجيج والصراخ وفوضى الحواس المحيطة بنا، فيما يشبه حال الثورة والتمرد على الأشياء وربما على المعاني». تؤمن فريال بأن التمرد لا يكون بالصوت الغاضب بل باللون الحر.
أخيراً لا تحبذ فريال الانخراط في مدرسة فنية معينة، تقول: «لا أتخذ لنفسي مذهباً مألوفاً هي هواجس إنسان أنثرها على طريقة اللون العشوائي، لكن خلف تلك العشوائية هناك انسجام وتناغم، يحدث بمزيج الألوان فأترك عشوائية اللون الهرموني خلفي، وأجعل حروفي كقائد الأوركسترا يعزف غاية اللوحة وملامحها الأخيرة، من ذاكرة العراق الكبيرة ومن مخطوطاتها، وتحفها، علقت بذاكرتي الصغيرة تلك النقوش وحاولت ببساطتي وعفويتي أن أعيد نظم تلك المخطوطات، مضيفة «حين يمتزج الحنين بالذكريات يأتي بإيقاع صاخب هي انفعالات وردود أفعال الحنين، والطفولة، التي لاتزال تنام على شواطئ دجلة، ولايزال يهزها سعف النخيل».
يشار إلى أن المعرض يعد الثامن للفنانة بعد عدد من المعارض في المملكة المتحدة، والولايات المتحدة الأميركية، والشرق الأوسط، ودول الخليج العربي، إلى جانب معارضها في المتحف البريطاني (لندن)، وفي غاليري الكوفة (لندن)، وغاليري البارح للفنون التشكيلية، وعمارة بن مطر، وغرين آرت غاليري في دبي.
ومن المعروف أن أعمالها أقتنيت وعرضت في المتحف البريطاني في لندن، والمتحف الوطني للفنون التشكيلية في الأردن، والغرفة التجارية العربية البريطانية في لندن، بيت القرآن في المنامة، وفي مبنى لجنة مكافحة التمييز العنصري الأميركية العربية في واشنطن.
العدد 3913 - الجمعة 24 مايو 2013م الموافق 14 رجب 1434هـ