في تعليقنا على نصوص قانون العمل الجديد رقم (36) لسنة 2012 وقفنا في الحلقات الماضية على بعضٍ نصوصه ورأينا ما حملته من أحكام مجحفة بحق العمال، فضلاً عن العيوب المتنوعة في الصياغة وغيرها التي لامست هذا القانون. وفي هذه الحلقة سنستعرض بعضاً من نصوص الباب الثالث عشر من القانون الذي استحدثه وخصّه هذا القانون لنفسه، وهو الباب الخاص بشأن «منازعات العمل الفردية» ثم نُعقِّب عليها فيما يلي:
• «يُنشأ في وزارة العدل مكتب لتحضير الدعوى العمالية وتهيئتها للمرافعة يسمى «مكتب إدارة الدعوى العمالية» ويُشكَّل من رئيس بدرجة قاض بالمحكمة الكبرى المدنية يتولى الإشراف على عمل المكتب، وعدد كافٍ من الأعضاء من قضاة المحكمة الصغرى المدنية...» (المادة رقم 120).
• «تُرفع الدعوى العمالية بلائحة تقدّم إلى مكتب إدارة الدعوى العمالية طبقاً للإجراءات المنصوص عليها في قانون المرافعات المدنية والتجارية... ويقوم المكتب فور تسلمه لائحة الدعوى بتبليغ المدعى عليه بنسخة منها وبموعد الاجتماع المحدد لنظرها أمام قاضي إدارة الدعوى العمالية المختص» (المادة رقم 121).
• «على قاضي إدارة الدعوى العمالية دراسة دفاع الخصوم وتمحيص أدلتهم. وله الاستعانة بموظفي المكتب في الأمور الحسابية المتعلقة بالدعوى، وأن يستجوب الخصوم ويسمع الشهود وينتقل للمعاينة، وأن يكلّف الخصوم بتقديم مذكرات ومستندات تكميلية، وغير ذلك من الإجراءات اللازمة لتحضير الدعوى» (المادة رقم 129)
• «يَعِّد قاضي إدارة الدعوى العمالية قبل الاجتماع الأخير المحدد لنظر الدعوى أمامه تقريراً يتضمن وقائع الدعوى وحجج الطرفين ودفاعهما، وما استندوا إليه من أدلة، ورأيه في الدعوى» (المادة رقم 130).
• «إذا انتهت مدة نظر الدعوى أمام قاضي إدارة الدعوى العمالية المنصوص عليها في المادة (123) من هذا القانون دون أن يتم حسم النزاع صلحاً، وجب عليه إحالة الدعوى بحالتها إلى المحكمة الكبرى المدنية مشفوعة بالتقرير المشار إليه...» (المادة رقم 131).
• «لا يجوز لأيٍّ من طرفي الدعوى العمالية أن يتقدم إلى المحكمة الكبرى المدنية بأية طلبات جديدة أو إبداء دفع أو دفاع لم يسبق إبداؤه أثناء نظر الدعوى أمام قاضي إدارة الدعوى العمالية إلاّ إذا كان الدفع متعلقاً بالنظام العام. ولا يجوز تقديم أدلة جديدة إلى هذه المحكمة إلاّ في الحالات التي يثبت فيها أن عدم تقديم الدليل إلى قاضي إدارة الدعوى العمالية كان لأسباب خارجة عن إرادة من يتمسك به، وبشرط أن يكون الدليل الجديد، بحسب الظاهر، صحيحاً وجدياً ومنتجاً في الدعوى» (المادة رقم 132).
• «تكون الأحكام الصادرة من المحكمة الكبرى المدنية في الدعوى العمالية نهائية، ويجوز الطعن فيها بالتمييز طبقاً للإجراءات والمواعيد المنصوص عليها في قانون محكمة التمييز» (المادة رقم 134).
• «لا تسمع دعوى العامل بشأن التعويض عن إنهاء عقد العمل إذا قدّمت بعد أكثر من ثلاثين يوماً من تاريخ إنهاء العقد...» (المادة رقم 135).
• «تسقط بالتقادم الدعاوى العمالية بمضي سنة تبدأ من تاريخ انقضاء عقد العمل» (المادة رقم 136).
من النصوص السابقة تستوقفنا علامات تعجب تجرنا للوقوف حولها عسى أن نُدرك مغزى هذه النصوص أو نفطن مقاصد وأهداف المُشِّرع منها. وهي الآتي:
أولاً: يتضح أن «مكتب إدارة الدعوى العمالية» المشار إليه في المادة رقم (120) أعلاه له اختصاص وظيفي واحد فقط وهو «تحضير الدعوى العمالية وتهيئتها للمرافعة»، ومع النظر إلى تسميته «مكتب» نستنتج من هذا وذاك أن هذا المكتب ليس بمحكمة عمالية.
وحيث أن من يقوم بدور «تحضير الدعوى» هو أحد القضاة بحسب ما ورد في النصوص السابقة، إلاَّ أنه - كما سنرى - لا يجوز اعتباره «قاضياً» وهو يقوم بهذا الدور، بدليل:
(1) إن هذا القاضي يقوم بدور المصالحة – أي حسم النزاع صلحاً، طبقاً لما أشارت إليه المادة (131)، في حين أن القاضي ليس من مهمته ذلك حتى وإن كان محكماً.
(2) إن لهذا القاضي حق الاستعانة بموظفي المكتب في الأمور الحسابية المتعلقة بالدعوى بحسب ما نصت عليه المادة (129) أعلاه. وهذا بالطبع لا يأتلف مع مهنة القاضي واستقلاله ، بل أنه يحط من قيمة القضاء لو اعتبرناه قاضياً في هذه الحالة.
(3) إن خاتمة أعمال القاضي المذكور هي كتابة تقرير يتضمن رأيه في الدعوى بحسب ما نصت عليه المادة (130) أعلاه، ما يعني أنه لا يصدر حكماً قضائياً يحوز حجية الأمر المقضي طبقاً لنص المادة رقم (99) من قانون الإثبات.
وحيث انتهينا إلى أن «مكتب إدارة الدعوى العمالية» ليس بمحكمة عمالية، وأن القاضي الذي ينظر الدعاوى العمالية لا يحمل صفة «القاضي» وإنْ سُمّي قاضياً، وأن ما يصدر عنه لا يعدو اعتباره تقريراً وليس حكماً قضائياً، فإننا بذلك نستنتج بأن «مكتب إدارة الدعوى العمالية» لا يعتبر درجةً من درجات التقاضي. وبالتالي فإن المحكمة الكبرى المدنية التي تنظر الدعوى العمالية المحالة إليها من هذا المكتب تعتبر أولى درجات التقاضي بالنسبة للدعوى العمالية.
فإذا كان الأمر ذلك فإننا نرى عجباً مما نصت عليه المادة رقم (132) السابق ذكرها «بعدم الجواز لأي من طرفي الدعوى العمالية أن يبدي أي دفع أو دفوع أو تقديم أدلة جديدة أمام المحكمة الكبرى المدنية المذكورة»، ذلك لأنها تتناقض مع نص المادة رقم (224) من قانون المرافعات المدنية والتجارية التي تُجيز لأيٍّ من الخصوم في كافة الدعاوى (المدنية والجنائية والشرعية) تقديم ما يبدى لهم من دفع أو دفوع أو أدلة جديدة أمام محكمة الاستئناف (وهي محكمة الدرجة الثانية).
وتعجبنا هذا يقوم على أنه متى كان جائزاً للخصوم تقديم ما يبدى لهم من دفع أو دفوع أو أدلة جديدة أمام محكمة الدرجة الثانية (محكمة الاستئناف) طبقاً لنص المادة (224) سابقة الذكر فكيف لا يجوز تقديم ذلك (وهو من باب أولى) أمام المحكمة الكبرى المدنية التي تنظر الدعوى العمالية (وهي محكمة أول درجة).
وعليه لا تثريب علينا إن نعجب من هذا التناقض الفجّ الذي لا نعرف مغزاه وهدفه سوى ما ندركه جيداً أنه يحمل أثراً سيئاً يصيب طرفي الدعوى بالضرر، وبالأخص العمال الذين في معظمهم إما يجهلون ذلك الحكم فيقعون في شر هذا الجهل، وإما لعدم تهيئة الظرف أو الوقت المناسب لهم لتقديم ما لديهم من أدلة أمام قاضي الإدارة العمالية.
ثانيا: وحيث انتهينا على نحو ما تقدم إلى أن المحكمة الكبرى المدنية (وهي المحكمة المحال إليها الدعوى العمالية من مكتب إدارة الدعوى العمالية) تعتبر محكمة الدرجة الأولى من درجات التقاضي، فإن ما يثير الاستغراب أكثر هو نص المادة رقم (134) من قانون العمل الجديد سابقة الذكر حيث تنصّ على أن «الأحكام الصادرة من هذه المحكمة في الدعاوى العمالية تعتبر نهائيةً لا يجوز الطعن فيها أمام محكمة الاستئناف». ما يعني ذلك إلغاء درجة من درجات التقاضي بالنسبة للقضايا العمالية فقط، وفي ذلك مخالفة دستورية وقانونية واضحة، الأمر الذي يشدنا مرةً أخرى للتساؤل عن أسباب وأهداف هذا الحكم القانوني المخالف للدستور والقانون.
فإن كان هناك من يستحسن هذا الحكم المخالف للقانون والدستور لكونه يعود بالمصلحة على العمال لاستعجال البت في الدعاوى العمالية، فإن هذا الاستحسان قائم على مصلحة وهمية، أو مصلحة قليلة الأهمية، ذلك لأن المصلحة هنا تعني المنفعة، فأي منفعة هذه التي يجنيها العمال من حجب درجة من درجات التقاضي عنهم، إذا ما علمنا أن لمحكمة الدرجة الثانية من أثر أو منفعة تفوق بكثير منفعة إسراع البت في الدعوى. فضلاً عن أنه إذا كان الهدف أو الغرض من ذلك هو إسراع البت في الدعوى فهناك آليات وإجراءات يمكن أن يسنّها القانون تؤدي إلى ذات الغرض.
ثالثاً: رأينا فيما تقدم نص المادة رقم (135) من قانون العمل الجديد بأن «لا تسمع دعوى العامل بشأن التعويض عن إنهاء عقد العمل إذا قُدّمت بعد أكثر من ثلاثين يوماً من تاريخ إنهاء العقد». ونص المادة رقم (136) بأن «تسقط بالتقادم الدعاوى العمالية بمضي سنة تبدأ من تاريخ انقضاء عقد العمل». فنستنتج من النصين السابقين أن قانون العمل الجديد قد فرّق بين طلب التعويض عن إنهاء العقد وبين طلب الحقوق العمالية الأخرى، فجعل طلب التعويض وحده مرفوضاً إذا طلبه العامل (المدعي) بعد ثلاثين يوماً من تاريخ فصله من العمل، وهذه مهلة قصيرة جداً قياساً بالنسبة للسنة الواحدة، إذا ما قدرنا أن التعويض هو أهم الحقوق العمالية وجوهرها، فيفترض أن يأخذ على الأقل حكم الحقوق الأخرى بالنسبة للمهل القانونية.
وهذا التفريق الغريب من نوعه الذي لم نعرف سببه، ولم نشهده في قانون العمل القديم ولا في كافة القوانين العمالية المقارنة، لا نراه سوى عورة من عورات قانون العمل الجديد التي تزيدنا يقيناً على يقين بأن هذا القانون قد لوى عِطفه (رداءه) عن العمال باتخاذه مواقف متشددة نحوهم كمثل هذا الموقف.
ولنا لقاء آخر في الحلقة القادمة لنثبت مجدداً أن هذا القانون هو أسوأ قانون عصري تشهده مملكة البحرين.
إقرأ أيضا لـ "علي محسن الورقاء"العدد 3913 - الجمعة 24 مايو 2013م الموافق 14 رجب 1434هـ
اذا كنّا امام مخالفة دستورية فما هي أوجه مخالفة هذا النص - الوارد بقانون العمل- لنصوص الدستور خاصة ان الاخير لم ينص علي مبدأ التقاضي علي درجتين