لم يعن مؤرخونا الأولون بتدوين الحياة الشعبية تدويناً يصوّر لنا ملامحها الصحيحة ويرينا كيف كانت تنقضي أمور الملايين من الناس الذين هم من غير طبقة الحكم وأضرابهم.
وأبو الفرج الأصفهاني (356 هـ/ 967م) وحده تعدى في السرد أمور الخلفاء والملوك والوزراء، وتغلغل في الحياة الشعبية فجاء كتاباه: «مقاتل الطالبيين» و»الأغاني»، في الكثير مما فيهما، صوراً مجلوة لكثير من الأفراد من طبقات لم تظفر من غير قلمه بالتقصي، فعرفنا منه سير كثير من الأحرار والمناضلين والعلماء، ومن الشعراء غير شعراء الملوك، ممن آثروا الحياة البسيطة الوادعة. وعثرنا منه على الكثير من الوشائج الاجتماعية والروابط بين الناس ومحيطهم، وعرفنا الكثير من العادات والتقاليد والأمزجة.
ولكن هل تستطيع تغريدة في تويتر، ونحن في عصر السرعة وهيمنتها، أن تقول كل شيء حين يكون التفصيل ضرورة؟
كتب اللبناني الجميل سمير عطا الله لا للـ «تويتر»: «الاختصار الجميل فن، لكن الـ»تويتر» يقضي على فنون كثيرة في الأدب والكتابة. ثمة أنواع أدبية تكاد تنقرض حتى قبل اكتشافها، كالشعر وأدب الرسائل. الاختصار جميل في موقعه. وتركيز الموضوع أكثر جمالاً، لكن ثمة قضايا كثيرة في الصحافة والأدب والسياسة لا تقع في هذا الباب. الـ «تويتر» ظاهرة لن تدوم. سوف يكتشف الناس غداً أنها قرضت معارفهم وسطحت أفكارهم وألغت مبدأ التساؤل والتأمل وجعلت كل الأفكار تعوم على السطح وألغت التفاصيل الجميلة أو الضرورية في الحياة».
الامر المؤسف، أن لا يتحول تويتر عندنا، إلى ساحة لتبادل الأفكار، والبحث عن أفق مستقبلي لمشاكلنا الوطنية والسياسية والاجتماعية، بل يتحوّل إلى معركة بين الكفر والايمان الصحيح، وميدان حرب بين الفرقة الناجية وغيرها من فرق البغي والضلال، هذه الحرب التي تقتات من منطق الماضي بوسائل «حرب رقمية» جديدة، قوامها الصورة الساخرة، واللفظة النابية، ومقاطع الفيديو التي تزدري الآخر وتتفنن في عرض مثالبه وعوراته الفكرية لاغتياله معنوياً وطرده من ربقة الدين والوطنية. وتظل هذه التغريدات مجرد صرخة في فضاء فسيح ومفتوح، لا ضوابط له ولا قواعد ولا حتى من يحدد مستوياته الأدبية وأحكامه الأخلاقية، وهنا المشكلة.
شبكات التواصل الاجتماعية اليوم، هي مجال جديد لحروب الطوائف، يشارك فيها الكثير من السذج والبطالين بحسن نية، ويتحمس لها الخبثاء بسوء نية. هي حرب جديدة يبدأها الباحثون عن الشهرة والأضواء لصرف الناس عن مشاكلهم الحقيقية الكبرى، ويتلقاها الحمقى والمغفلون بالبشر والترحاب، تهريج جديد في عالم افتراضي، تحاول فيه هذه الفئة المريضة أن تسجّل لها حضوراً مجتمعياً أو مكانة في دنيا السياسة، كجزء من حالة السعي لتعويض العجز الذي تعيشه في عالم الواقع.
المشكلة أن هذا الصنف من الناس لا يتكاثر إلا في الأزمات السياسية والاجتماعية الطاحنة، ما يعني انها كائنات «جبانة» تخشى مواجهة الجمهور وهو في كامل وعيه وسلامته النفسية، لأن بضاعتها لن تقبل وغشها سيكون مفضوحاً. لكنها تلجأ لعرض ما لديها من بضائع فاسدة في حالات الانكسار والتأزم المجتمعي، لأنها حينئذٍ ستجد دائماً من يكون مستعداً للاصغاء والتصفيق.
ثمة من يظهر لنا بين فترة وأخرى، وفي غفلة دائماً من الجهات الأمنية بالطبع، بدعوات ومطالبات صارت عند البعض جزءًا من هوس الانتقام وسيكلوجية التشفي، فراح يطالب باستبدال أسماء مناطق البحرين التي ينتمني إليها مكوّن مذهبي قاسى كثيراً من حملات التشويه المنظمة، بأسماء أخرى بديلة، وهي دعوات تطفح منها روائح طائفية تزكم الأنوف، وصار منطق الغلبة والاستضعاف المذهبي هو من يحرّك هؤلاء، في وقت سادت فيه الروح السلفية الواضحة على اللغة الاعلامية الرسمية، حتى بات عادياً جداً أن تجد إعلاميين تقلبوا في أحضان الفكر والعقيدة الماركسية بكل توتراتها المزمنة مع الفكر الديني، أبدت صداقة حميمية مع قنوات سلفية، كما توارت الشروط الفنية والأخلاقية للإعلام المهني إن لم تختف تماماً منه.
تويتر فن جميل، لكنه مسئولية أدبية وأخلاقية كبيرة، لا يحسن التعامل معها الكثيرون بمسئولية وحرص. ولا يعلم الكثيرون من أصحاب العقول الفارغة أن عدد المتابعين لحسابك في تويتر لا يعني أنهم معجبون بطرحك، بل هم يستظرفون خفة عقلك، وإذا كان الناس تدفع أموالاً لتشاهد المهرّج كيف يجتهد في إضحاك الناس في السيرك، فلماذا لا تقرأ المهرّجين في تويتر من دون مقابل؟
في رأيي أن الكتاب هو الأصل، وتويتر قد يخدم الناحية التسويقية للكتاب، لكنه يظل مجالاً مفضلاً للعابثين وأطفال السياسة، في حين أن الكتابة الجادة لها فرسانها المحترمون. رحم الله أبا الفرج الأصفهاني الذي كان معنياً بتاريخ المهمشين، وهناك من أبناء القرن الحادي والعشرين من يريد أن يقفز على جراح الناس ليماليء وينافق بكلام ركيك يعوزه الجمال والأناقة.
إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"العدد 3910 - الثلثاء 21 مايو 2013م الموافق 11 رجب 1434هـ
سياسة مرسومة.
نشر ثقافة تويتر، قراءة المجلات التافهة ، التركيز على أخبار شخصيات لا يغيرون شيئا من حياتنا، قضاء الوقت أو بالأصح هدر العمر فى أمور لا تنفع، كلها سياسات مرسومه من قبل الذين يديرون عالم اليوم. الهدف: تكوين افراد متخصصين فقط يتم إستغلالهم لخدمة الكبار، فصلهم عن مجتمعهم للإنفراد بهم و تضعيف الإرتباطات الشخصية ، تحويلهم الى ماكنة لكى لا يتدخلوا فى أمر الكبارو عدم السماح لهم بفعل أى شيء آخر بوضع قوانين و معايير إجتماعية تسود اللاو عى البشرى و تغدو جزءا من اصولهم المتبعة.
زبد
واما الزبد فيذهب جفاء واما ماينفع الناس فيمكث في الارض