امتزجت الدموع والمشاعر الملتهبة بسيل هادر من المواقف والكلمات والإرث الوطني النضالي في حفل تأبين المناضل الراحل محمد جابر صباح سيادي مساء أمس الأول الأحد (19 مايو/ آيار 2013) بجمعية المهندسين البحرينية، ليستذكر محبو ورفاق الراحل محطات عطائه، وليعلنوا العهد بالمضي على طريق المطالب المشروعة والنضال من أجل العدالة والحقوق والتصدي للفتنة ولمحاولات تفتيت الوحدة الوطنية.

واستهل عريف الحفل الإعلامي خليل يوسف، التقديم لحفل التأبين الذي نظمته جمعية المنبر الديمقراطي التقدمي، وجمعية العمل الوطني الديمقراطي (وعد) بإرجاع مخيلة الحضور إلى (4 أبريل/ نيسان 2013) حين شارك الآلاف الذين شيعوا الراحل لتوديعه، وهم يدركون دوره في محطات نضالية منذ الأربعينات حتى افتراشه سرير المرض وهو يسأل رفاقه عن قضايا شعبه، فيما فتح المجال لأمين عام (المنبر) عبدالنبي سلمان مرحباً بالرئيس الفخري للمنبر المحامي أحمد الشملان وبالحضور، واصفاً الراحل، الشخصية القيادية في صفوف جبهة التحرير الوطني والمنبر الديمقراطي التقدمي بالقامة التي طالما تابعنا وسمعنا وعايشنا مواقفها الوطنية في سبيل الدفاع عن مطالب شعبنا نحو الحرية والعدالة والديمقراطية.

ضد دعوات التقسيم والتشرذم

وعبر عن أمله في أن تتاح الفرصة لجمع تفاصيل عن حياة الراحل، التي فيها يكمن جزء من تاريخنا الوطني؛ نظراً لأن سيرة هذا المناضل الكبير تبقى عصية على المتابعة والرصد في جميع مراحلها وفصولها مهما حاولنا واجتهدنا، وزاد قوله في مورد آخر من كلمته: «على مدى أكثر من خمسين عاماً قضاها «بوجابر» مدافعاً صلباً عن مطالب شعبنا المشروعة في الحرية والعدالة والتقدم، وضد دعوات التقسيم والفرقة والتشرذم، حيث بات ضرب وحدتنا الوطنية وتمزيق نسيجنا الاجتماعي مشروعا معلناً يراد منه إجهاض حراكنا الوطني ومطالب شعبنا المشروعة تحت ذرائع عدة، تتنوع بين وصم هذا الحراك الذي لم يتوقف يوماً بالطائفي والمذهبي حيناً، والمستند على أجندات خارجية أحياناً أخرى، وهي ذات الحيل والسيناريوهات التي كثيراً ما وُصم بها حراكنا الوطني المشروع في أكثر من مفصل تاريخي ومرحلة نضالية، والتي استطعنا أن نجتازها كشعب ووطن بسلام بفضل وعي شعبنا وقواه الوطنية على مدى أكثر من خمسة عقود مضت».

ومضات من نضال كبير

وتطرق سلمان إلى سيرة المناضل صباح الذي تمرغ في ساحات النضال الوطني، وهو في مقتبل العمر ضمن حركة الشباب العرب، ومن ثم حركة الثوريين العرب وبعدها حركة القوميين العرب وصولاً إلى صفوف جبهة التحرير الوطني البحرانية، حيث الدفاع بلا هوادة ودون خوف عن مصالح العمال والكادحين والمسحوقين، وعبر قيادة الإضرابات العمالية والمطلبية حتى عندما أقعده المرض وهو على كرسيه المتحرك، كما برز دورهُ القيادي في انتفاضة مارس من العام 1965 المجيدة، ومواقفه الوطنية ضمن كتلة الشعب في برلمان 73، ولم تُثنه رحلة العذابات والسجون التي أعقبت حل البرلمان في أغسطس/ آب من العام 1975، ولم تفتَ من عضده ظلمة وبرودة الزنازن، ولم تنل منه إغراءات الجلادين وألاعيبهم القذرة فظل مع بقية رفاقه ممسكاً بجمر الوطن وهو يشتعل دون أن يكل أو يمل، كما بقي مجلسه عامراً بمختلف الشخصيات الوطنية من اتفق أو اختلف منهم معه ومن مختلف الأطياف، باذلاً جهوده المخلصة التي تكاملت مع رفاقه وأصدقائه ومريديه لتخرُج للبحرين من مجلسه مبادرة العريضة النخبوية في العام 1992 وليستمروا مجتمعين بعدها في جهد وطني مسئول في إظهار العريضة الشعبية في العام 1994.

تحيات الشريف والرموز

وتواصلاً مع ما طرحه سلمان في الحديث عن المناضل الراحل، تناغمت كلمة القائم بأعمال أمين عام جمعية العمل الوطني الديمقراطي (وعد) رضي الموسوي، على ذات المسار ليستوثق (العهد) من الحضور، حينما ضجت القاعة بالتصفيق وهو ينقل لهم تحيات أمين عام جمعية «وعد» إبراهيم شريف، الذي يقبع شامخاً في سجنه بمعية القيادات السياسية والنشطاء الحقوقيين ومئات من معتقلي الرأي من أبناء شعبنا الذين ناضلوا على طريق الحرية والعدالة الاجتماعية والمواطنة المتساوية.

ولم يغفل الموسوي استحضار تضحيات جسيمة خلال تاريخ الراحل النضالي الذي زاد على نصف قرن من الزمن، اعتقل وطورد وشرد، لكنه بقى متمسكاً بمواقفه النضالية الوطنية الجامعة، منذ النصف الثاني من خمسينات القرن الماضي عندما كان مناضلاً في صفوف حركة القوميين العرب بتفريعاتها، ليدخل غمار انتفاضة الخامس من مارس 1965 قائداً ميدانياً ضمن جبهة القوى القومية، وذاق خلالها ظلامات السجن وتعذيبه مع مجموعة من كوادر وقيادات الانتفاضة، وذلك بعد مطاردات وتخفي.... ثم واحداً من أعضاء كتلة الشعب بمعية علي ربيعه وآخرين في المجلس الوطني العام 1974، الذي لم يتحمله النظام فأقدم على حله في صيف العام 1975 ليطبق قانون تدابير أمن الدولة، ويباشر حملة اعتقالات طالت العشرات من مناضلي جبهة التحرير الوطني البحراني والجبهة الشعبية في البحرين، كما شملت العديد من أعضاء المجلس النيابي ومن بينهم فقيدنا المناضل محمد جابر الصباح، الذي لم يفت السجن من عضده، فواصل طريق النضال في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، حيث كان واحداً من قيادات العريضتين النخبوية والشعبية التي تعتبر واحدة من المفاصل التاريخية لنضالات شعبنا من أجل الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وكان بمعية رفاق دربه علي ربيعه وأحمد الشملان وعبدالله مطيويع وإبراهيم كمال الدين ود. منيرة فخرو وسعيد العسبول، إلى جانب المرحوم الشيخ عبدالأمير الجمري وعبدالوهاب حسين وغيرهم.

الراحل والحوار

وربط الموسوي بين أفكار الراحل ومجريات الحوار، مذكراً بأفكاره ومواقفه ووصاياه في الوحدة الوطنية ونبذ الفرقة وتعزيز مكانة قوى المعارضة الوطنية الديمقراطية التي تخوض نضالات على أكثر من صعيد، بما فيها جبهة الحوار الوطني الذي نريده جاداً وذي مغزى يخرج بلادنا من عنق الزجاجة، بينما يريده البعض واجهة للعلاقات العامة وتقطيع الوقت والتغطية على انتهاكات حقوق الإنسان، لتنسجم قصيدة الشاعر عبدالصمد الليث مع خطابي سلمان والموسوي، وتأتي مفعمة بمعاني الوطنية والوحدة ورفض الظلم والدعوة إلى الوئام، لهذا صعد المنصة ليقول: «تيبس الجسد.. لكنه عاد طرياً في تراب عاشق البلد.. وشاخصاً.. وصوته وصية أن احرفوا قلوبكم.. صفوفكم.. في وحدة البلد».

هي... مصلحة التيار الوطني

وبعد أن رفعت الشكر والامتنان إلى الجمعيتين لتنظيم هذا اللقاء، تحدثت ابنة الراحل قدسية محمد جابر في كلمتها لتنوه إلى ما كان الراحل يتمناه حين قالت: «إن إقامة هذه الفعالية عبر التنسيق والتعاون بين الجمعيتين كان يشكل هاجساً وطموحاً لوالدي سعى لتعزيزه، حيث كان يرى بأن مصلحة التيار الديمقراطي تتطلب ضرورة توحيد الجهود في إطار عمل مشترك يفضي لتحقيق الخير والعزة والكرامة لهذا الوطن».

«ما أروعه وهو المريض حينما يهزم زيف الأصحاء».. عبارة استعانت بها قدسية، في كلمتها عن مقولة قالها ابن أخت الفقيد، لتقول إنه من الصعب أن يقف المرء أمام هذا الجمع الطيب والوجوه الخيرة المعطاة ، المحبة لوطنها وأبناء شعبها ليتحدث معهم بشكل مباشر عن علاقته بأقرب الناس إلى قلبه ألا وهو والده، الذي تربطه به العديد من الذكريات والمواقف والأحداث، وأصدقكم القول بأني لا أعرف من أين أبدأ في الحديث عن شخصية والدي محمد جابر صباح سيادي أو كما يسميه أصحابه وأحبابه «بوجابر»، هل أتحدث عنه من الناحية الإنسانية الأبوية أم من الجانب الذي يتعلق بنضاله السياسي؟ محطته النضالية أنتم رفاقه في جمعية المنبر الديمقراطي التقدمي ورفاقه ممن عاشوا معه أقدر على سرد سيرته الوطنية.

ذكريات فريج «ستيشن»

وكأنها اختارت مسار كلمته فزادت قولها: «سوف أتحدث لكم عن علاقتي به كابنه تفتحت عيناها على الدنيا وعاشت في كنفه، ولد والدي في العام 1931 وعاش في فريق (ستيشن)، الذي أنجب العديد من المناضلين من أمثال المرحوم إبراهيم فخرو وعبد الله فخرو وهشام الشهابي والمناضل عبدالله مطيويع، في هذه الأجواء تربى والدي، ولقد أدركت منذ اللحظة الأولى التي بدأت فيها أعي ما يدور حولي من أحداث وقصص أسمعها عنه، وتيقنت حينها رغم صغر سني ومحدودية مداركي بأن والدي يختلف عن أقرانه من الأهل في تلك الفترة».

واستعرضت عدة محطات أسمتها محطات التحدي، بدأتها بتجربة الاغتراب في صباه للعمل خارج الوطن طلباً للرزق رغم صغر سنه، ثم بعد ذلك - نتيجة لإصراره على المبادئ والقيم التي آمن بها - يدخل المعتقل في السعودية العام 1948، وهو في سن مبكرة من عمره، ورغم صعوبة التجربة على هذا الفتى الصغير إلا إنها زادته إصراراً وتحدياً على المضي قدماً في درب النضال، ونراه يشارك رفاقه في العمل الوطني بعد عودته إلى البلاد في جميع المحطات الوطنية، التي مرت بها مسيرة العمل الوطني في بلادنا، إن إرادة التحدي كانت هي المحرك الذي يدفعه دائماً لأخذ المبادرة، حيث نراه يتبع حلمه حتى ولو كان في نظر الآخرين مستحيلاً.

وبدت أكثر اللحظات تأثيراً في حفل التأبين، حين قدمت قدسية كلمة خاصة «للإنسانة الرائعة إيلسا، التي رافقت والدي في رحلة حياته لمدة سبعة وعشرون عاماً، وجسدت أعظم القيم الإنسانية النبيلة من خلال رعايتها واهتمامها والسهر على راحته رغم صعوبة الظروف التي كانت تواجهها بحكم إنها غريبة عن البلد/ إلا أنها وقفت وأصرت على الاستمرار، وبذلت الجهد في رعايته وخدمته، لها مني كل الحب والشكر والتقدير وستظل لها مكانة خاصة في نفسي مهما حييت، ولم ولن أستطيع الوفاء بحقها».

وقدم كل من عبدالنبي سلمان ورضي الموسوي درع الوفاء لزوجة المناضل، فيما قرأت ابنتها كلمة شكرت فيها والدتها على ما قدمته لوالدهم الراحل ولهم، كما توجهت بالشكر إلى رفاق الراحل ذوي المكانة الخاصة في قلوب عائلته، وبضع كلمات باللغة الإنجليزية تحدثت فيها إيلسا إلى الحضور، امتزجت فيها كلمات الشكر بالبكاء، وأبكت بعض الحاضرين.

وبعد استعراض فيلم وثائقي سجل محطات نضال الراحل، عطرت شقيقته أمل، الختام بكلمة العائلة التي توجهت فيها بالشكر إلى الجمعيتين. وتناولت الكلمة تاريخ النضال المشرف للراحل الكبير الذي جعل أبوته لجميع شعب البحرين، مروراً بكونه أحد القياديين في حركة القوميين العرب ممن برز دورهم و مبادراتهم في القيادة الجماهيرية أثناء انتفاضة مارس المجيدة في العام 1965 ضد الوجود الاستعماري البريطاني، والتي أسهمت في إدارة دفة وتنسيق الفعاليات النضالية مع القوى الوطنية الأخرى، التي تجاوبت تجاوباً سريعاً مع الحراك الجماهيري ونزلت لتقود الساحة بفعالية ملموسة، وتطرقت إلى دخول الراحل معترك الحياة النيابية في المجلس الوطني العام 1973 مدافعاً عن شعب البحرين ومؤمناً بحقوقه، حيث كان أحد أعضاء كتلة الشعب، و كان يؤكد دائماً بأن الديمقراطية هي البوابة الصحيحة التي يستطيع أن يلج منها للدفاع عن شعب البحرين، ودفع ضريبة نضاله داخل المجلس الوطني اعتقاله العام 1976، وبعد خروجه من المعتقل العام 1979 واصل نضاله من خلال مجلسه الأسبوعي الذي التزم به على مدار أكثر من ثلاثين عاماً، ذلك المجلس الذي لمّ فيه شمل رفاقه وأصدقائه ومحبيه من مدن وقرى البحرين، حيث كانت الحوارات الجادة التي ينصب جلها في مصلحة وارتقاء البحرين وشعبها، والتي انبثقت منها فكرة رفع العريضتين النخبوية والشعبية في مطلع التسعينات، حيث كان له دوراً بارزاً مع عدد من الشخصيات الوطنية في لجنة العريضتين المطالبتين بإعادة الحياة النيابية وتفعيل العمل بالدستور.