العدد 3907 - السبت 18 مايو 2013م الموافق 08 رجب 1434هـ

البداوة القابعة في أعماقنا

عبدالنبي العكري comments [at] alwasatnews.com

ناشط حقوقي

على رغم أن غالبية العرب من البحرين حتى المغرب لا يعيشون في الصحاري، بل إنه حتى في بلد مثل السعودية، حيث غالبية مساحتها (أكثر من 90 في المئة) صحاري، إلا أن غالبية السكان وبما يتعدى 95 في المئة يعيشون في المدن والقرى، ولم يعد هناك من يعيش في الخيام، ويعتاش من وراء الإبل. لكن البداوة تسكننا نحن العرب، حتى ونحن نعيش في ناطحات السحاب أو الفلل الفارهة حتى ونحن في الطائرات السابحة في السماء، أو السيارات الحديثة أو القطارات.

البداوة تسكن معظمنا بمن فيهم الأميون والدكاترة، الزبالون والجراحون، الفقراء والأغنياء وما بينهما، الطبقة الوسطى الحديثة والتشكيلات الاجتماعية التقليدية، رجال الدين والأفندية، من يلبس الحطة والثوب أو البدلة الغربية، الرجال والنساء... والشباب والشيوخ.

بالطبع هناك استثناءات، وهناك درجات من البداوة، لكن هناك درجة من البداوة داخل كلٍّ منا، مستقرة في عقله الباطن وتظهر إلى السطح لدى أقل درجةٍ من الاستفزاز.

أول ما يستفز البداوة بنظرتها الدونية للمرأة، وأن المرأة عارٌ على الأسرة أو القبيلة عند أول إشارةٍ لاستقلاليتها، وأن العار قد يأتي من الأخت أو القريبة، لكنه لا يسأل عن بنات وأخوات الآخرين. هنا تستفز النزعة البدوية، وكأن كل ما أتى به الدين والحضارة والتطور لصالح المرأة وحقوقها ومساواتها بالرجل، واستقلاليتها وكينونتها، لا معنى له. لذلك نجد أن كل القوانين العربية مطواعة لتجليات السلوك القبلي تجاه المرأة أو ما يعرف بجرائم الشرف، حيث لا تتعدى عقوبة القاتل بضع سنوات، وإذا ما تزوّج المغتصب ضحيته سقط حقها.

أحد تجليات البداوة هو الاعتداء بالحسب والنسب، والعزوة والعشيرة، والترابط استناداً إلى رابطة الدم وليس الأفكار أو المصالح الطبقية. لذلك ابتليت الأحزاب السياسية بما فيها التقدمية بالسلالات الحاكمة، وابتليت منظمات المجتمع المدني بالتشكيلات العشائرية والعائلية والقبلية والمذهبية.

وعلى رغم أن دمشق هي أقدم مدينة في العالم، وأن كثيراً من المدن العربية يعود تاريخها إلى آلاف السنين، إلا أنها فشلت في إقامة مجتمع مدني مندمج، فترى في كثير من الأحيان، الأحياء ذات طابع قبلي أو مذهبي أو جهوي، بل إنه وفي السنوات الخمسين الأخيرة وعلى إثر الانقلابات العسكرية المتتالية فقد جرى ترييف المدن بزحف سكان البوادي والريف إلى العاصمة، إما بسبب فشل التنمية أو الالتحاق بأقاربهم من العسكر وهم الحكام الجدد.

يمكن لأي محاورة في مقهى أو تلفزيون أو ندوة أو حتى في الطائرة، أن تتحوّل من مناقشة هادئة ومعقولة، إلى اشتباك قد يؤدي إلى تبادل الرصاص، بسبب ترسبات البداوة، باعتبار أي رأي آخر أو نقد مسبّةً وتجريحاً شخصياً، بل تجريحاً بالعائلة أو القبيلة وقدحاً في الشرف، وقد قال شاعرنا:

لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى

حتى يراق على جوانبه الدم

إحدى المرات سألت رئيس لجنة حقوق الإنسان في البرلمان الأوروبي واسمه (جاك سولييه)، عن قرابته بزوجة صديق لي المرحومة مارلين سولييه، فرد علي باستغراب: لا صلة قرابة وحتى لو كانت فإن ذلك لا يهم، وانتبهت إلى تعمدنا دائماً بذكر لقب العائلة أو القبيلة وتأكيد القرابة من علية القوم، حتى ولو كان المتفاخر فقيراً.

من هنا فإن مسائل كثيرة تترتب على الانتساب لعائلة أو عشيرة أو قبيلة قوية وكبيرة، خصوصاً إذا كانت في الحكم أو قريبة من الحكم، فهذا يعني الحظوة والأولوية في التوظيف والترقي والامتيازات. وإذا نظرنا إلى التراتبية في السلطة والثروة عند عرب اليوم، وهما متلازمتان، فإن الأساس تراتب قبلي، مع التحاق ذوي الأصول العادية، الذين يحققون ثروة أو سلطة، بهذه التراتبية. فحتى في لبنان أضحى الحريري شيخاً، وبيير الجميل المسيحي شيخاً، وعندنا يسمى الوجيه الفلاني.

ومن مظاهر انحطاط الأنظمة العربية، تحوّل الحكم الجمهوري إلى حكم عائلي (جملكي)، يجتهد في إعادة أصوله إلى أصول رفيعة، والانتساب إلى قبيلة أو عائلة كبيرة.

من أفضل من كتب عن هذه الظاهرة العلامة ابن خلدون في الزمن الغابر، وفي زمننا القريب علي الوردي وخلدون النقيب.

الموضوع متشعب، وربما اختزلته كثيراً ما يضر بالتناول العلمي، وحسبي أني أريد أن أثير نقاشاً لأهم ظاهرة مرضية اجتماعية ابتلينا بها في العالم العربي.

إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"

العدد 3907 - السبت 18 مايو 2013م الموافق 08 رجب 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 11 | 10:50 ص

      هذا الكلام صحيح يا دكتور .......نعيش عقلية البداوة بثياب الحداثة .

      الحقيقة الانسان يستغرب عندما يتواجد في منطقة كلها بنايات حديثة جدا ولكن تصرفات بدوية غير متحضرة.
      نستخدم احدث الاجهزة لمننا عقليتنا بدوية حتى النخاغ.
      صراحة وضع غريب جدا
      قد يشعر الفرد بأننا نعيش انفصام الشخصية

    • زائر 8 | 6:56 ص

      النظرة الدونية للمرأة

      تمنيت ان تتطرق الى من وقف ضد القانون المدني الذي يحمي حقوق المرأة والذي لا تمتلك الجرءة لذكره بالاسم

    • زائر 7 | 4:07 ص

      من قصص التاريخ الميلادي وتاريخ الاسثمار المستمر

      من البحث عن الذهب الى صيد اللؤلؤ والمرجان وإكتشاف مغارة علي باب المندب ومضيق هرمز وتضاف اليها بعض الدول الأفريقيه مثل جنوب أفريقيا فيها ألماص. فالقصة ليست قصة شعوب وحكام ما فيها محاكم تحكم عدل، بينما تقاسم شركات بريطانيه وأخرى أمريكيه وإستخواذها على الثروات الطبيعية بمبرر الاستثمار. طبعا من غير الطبيعي أن تكون كل الدول المستثمرة غير مستعمره وشعوبها مابين البينين من كخيول طروادة وأخرى مستعمله لما يشبه الخيل. فهل بحر أو بحرين مستقله أو مستغله؟ أوغباوة على وزن بداوة؟

    • زائر 6 | 2:29 ص

      البداوة

      البداوة تعكس: قلة المعرفة والثقافة ، العقلية المافيوية ، التعويض عن العقد الاجتماعية والعرقية ، الكسل وعدم الثقة بالنفس...

    • زائر 5 | 2:09 ص

      بالضبط

      انا واخِ على ابن عمي ، وانا وابن عمي على الغريب .. حتى لو كان اخِ او ابن عمي على خطأ
      عرب شتقول عنهم :)

    • زائر 4 | 1:27 ص

      وضعت يدك على أخطر الامراض الذي تعانية الامة العربية............ما هو السبب؟؟

      فعلا إغلبنا بدو بملابس جديدة.
      بدو في فلل.
      بدو في سيارات فاخرة.
      بدو بأحدث الاجهزة الالكترونية الحديدثة.
      لا وعندنا كل شئ توصل إليه عالم الحضر ونستخدمه وناحضر عنه لكن العقلية بدوية، متحجرة ومتخلفة وسلوكنا وأعمالنا أغلبها خير دليل على ذلك.
      ..يمكن يا دكتور السبب الرئيسي هو الجهل؟؟
      الجهل معشش فينا حتى بعد نزول القرآن عربيا، وحتى بع امتلاكنا لكل ما توصل إليه العلم نظامة وصناعة وخدمات.
      الله يعين.

    • زائر 2 | 1:07 ص

      قريش وأصحاب الفيل والانترنت

      ليس بسر أن قريش من الأقوام التي عاشت على شبه جزيرة العرب في تناحر وتقاتل وإقطاع تجارة وصراع طبقي مستمر وإغارات على القبائل بعضها على بعض لا لشيء يسوى، لكن كان لأتفه الأسباب يمكن شن حرب ضروس وإبادة قبيلة ضعيفة وقد تساعد القبائل القبيلة الغايرة والحاسده. الفزعة ونصرت القبيلة المنتصرة ليس لوجه الخير وإنما لنصيب شيء من الغنائم. الأقطاعيون لا يختلفون عن شبه واقع قريشي لشبه جزيرة العرب. فهل عدنا بالاقطاع وللتجارة و استوردنا الجاهلية القرشيه و أسماك قرش؟

    • زائر 1 | 11:02 م

      أحسنت

      لخصت " خوارق اللاشعور " لكن من يدرك؟ من يفهم؟ من يتعظ؟ من يستفيد و يتغير؟

اقرأ ايضاً