العدد 3906 - الجمعة 17 مايو 2013م الموافق 07 رجب 1434هـ

«عشريات» أيام الفن والأدب

المنامة - محمد حميد السلمان 

17 مايو 2013

قال أحد أفراد عائلته يوماً عندما رأى توجه ذاك الطفل المغاير عن أقرانه في البيت والمدرسة: «إن كريم يرى رؤى تختلف عما يراه الآخرون من الأطفال... يجب كبح جماح هذا الطفل غريب الأطوار حتى لا يخسر مستقبله الدراسي». أما ذاك الطفل فقد كتب يقول:» كان درسي الأول عندما رسمت منظراً علَّقه مدرس الرسم في قاعة المدرسة الغربية الابتدائية العام 1946. عندما أتحدث عن الرسم والهوايات الأخر يقول بعضهم إنه يهرب من الواقع المعاش. كنت أحب التعرف إلى تراث الشعوب، شغوفاً بتلك القصص والصور التي تحكي عن المغامرات والرحلات، قصة «دون كيشوت»، «جلفر»، «ماجلان»، «ابن بطوطة»، وغيرها من الكتب المترجمة. كان الكتاب نافذتي نحو ذلك الأفق الواسع. أتت تجربتي الشخصية لدراسة الفن من خلال متابعتي أعمال فناني عهد النهضة، ونسخ بعض أعمالهم للتدرب على النقل الحرفي للعمل الفني، ومن ثم اتجاهي للنقل من الطبيعة مباشرة».

بهذه العبارات المختصرة يُجمل الفنان التشكيلي والباحث عبدالكريم علي العريض بداياته الفنية في عالم الصورة واللون والريشة والقلم عبر سفره الجديد الذي حط رحاله من المطبعة إلى رفوف المكتبات مؤخراً، متخذاً من «ندوة الفن والأدب» التي كان أحد مؤسسيها العام 1952؛ صلب عنوان هذا الإصدار « أيام الفن والأدب».

يقسم تاريخ حياته وطفولته تحديداً متلازماً مع تاريخ تجربته الفنية الطويلة، فهو يدونها منذ العام 1934- 1949 وكان في السادسة من عمره، يوم أخبره والده علي العريض بأنه سيدخله المدرسة مما أثلج صدره ورسم ابتسامة عريضة على محياه الخجول. وبدأت المدرسة تشكل جزءاً مهمّاً في طريق حياته وهو يقطعه يوميّاً مارّاً بسوق «الطواويش» وأزقة المنامة متوجهاً إلى المدرسة الجعفرية الابتدائية للبنين.

يسجل بعض ذكريات الحرب العالمية الثانية وتأثيراتها المعيشية على الشعب البحريني الصبور، يوم قلّت الأقوات العام 1940 وبدأ الناس يشعرون بالجوع عندما أُغلق الخباز بقرب بيتهم لعدم وجود الطحين، حتى الكراسات اختفت من الأسواق، وشاهد ذاك الخندق الذي حفرته البلدية في وسط براحة «بن حديد» ليحتمي به الناس تحسباً للغارات الجوية. يذكر بالفضل الكبير سالم العريض ابن عمة والده، والعم منصور العريض وتأثيرهما في منعطفات حياته وأفكاره. وعندما شدت انتباهه رسومات «عاشورائية» رسمها الطالب عبدالرحمن الموسى في مدرسة المنامة الثانوية جعله ذلك المنظر يعود إلى البيت ويبدأ في رسم مواكب العزاء الحسينية بطريقة عفوية في عشرين مشهداً تم عرضها فيما بعد في معرض المدرسة العام.

ثم يبدأ مع القسم الثاني في عرض تاريخ حياته بطريقة «عشريات» أو عقود، فنجده بين 1950 - 1959، يعود لتوثيق بعض المناسبات الفنية التي شارك في تأسيسها أو تنظيمها، كندوة الفن والأدب العام 1952، جمعية التمثيل والموسيقى 1954، معرض الفنون الجميلة بنادي العروبة 1956، وغيرها.

ويذكر أن المنهج الذي سارت عليه «ندوة الفن والأدب» هو المنهج الإنساني بعيداً عن التعصب القومي والمذهبي، ولذلك فهي تشكلت أيام الزمن الجميل من (كريم محسن، كريم العريض، صلاح المدني، ناصر المطوع، أحمد القصيبي، يعقوب المعتز، وجاسم أمين).

ويؤرخ عبدالكريم العريض لدرسه الأول في «النسبة والمنظور» في الفن التشكيلي في الخمسينات من القرن الماضي وهو يشاهد أحد أفراد البعثة الدنماركية للتنقيب عن الآثار في البحرين يرسم في أحد شوارع المنامة القديمة بـ (فرقانها) الضيقة والشعبية مقسماً المسافات ويقيس المنظور بقلم الرصاص، فكان ذلك بالنسبة له أول درس في طريق الفن الأكاديمي. وبهذا التأثر بدأ العريض يوجه ريشته أكثر هو وزميله الراحل حسين السني لرسم (الموديل) من شوارع وأزقة وحارات ومقاهٍ وبساتين وسواحل البحرين. وكانت سوق المنامة كما يذكر العريض «أكاديمية الفن التي تلقيت فيها درسي الأول منذ الخمسينات، في فترة نضوجي الفكري، فقد أخذت أدرك الكثير من الأمور المتعلقة باللون والضوء، والمنظور. كانت الأسواق المحيطة بدار البلدية أثارت في نفسي المواضيع الشعبية الأثيرة، وكان مبنى البلدية مركز السوق».

ويأخذه سحر ذاك المكان والزمان اللذين شكلا عالماً زاخراً بالألوان والرؤى والإيقونات الفنية مما شكل لب لوحاته طوال سنوات، وها هو يصف ذاك العالم وكأن ريشته ترسم لا قلمه يدون «خلف مبنى البلدية عربات الحمير (الكاري) التي تحمل الزبالة إلى مناطق خارج حدود مدينة المنامة. يتألف مبنى البلدية من طابق أرضي، وطابق ثان له بهو (ليوان) طويل يطل على السوق، وفي يوم الأربعاء من كل أسبوع تنعقد السوق الأسبوعية الكبيرة، تتحول المنطقة إلى تجمع لبيع جميع السلع، ويأتي أصحاب الهوايات لبيع ما لديهم من بضاعة، والنساء يبعن الدجاج في أقفاص خاصة (كراكير) والحمام والأرانب، وصانعو السلال و(القفيف والحصر والمديد). ألوان يمتزج بعضها ببعض، وأشكال تتداخل، وألوان المظلات كثيرة، الأسود، الأبيض، الأزرق، والأحمر. وأصحاب المزارع الذين يجلبون إنتاجهم من البرسيم إلى السوق صفوفاً منتظمة، تخاله بساطاً أخضر قد بسط في وسط السوق. وفي الطرق النافذ إلي شارع الشيخ عبدالله دكاكين تباع فيها الأدوات القديمة والتحف، وأخرى تبيع الاسطوانات والكرامفونات، وقد كتب على كل دكان لوحة باسم الشركة». وهكذا يستمر العريض في سفره المتنقل بين محطات حياته بالأرقام فيقف عند أعوام 1960 - 1969، ويذكر أنها كانت «سنين البحث والاكتشافات في مجال الفن والأدب». وتحت تلك السنوات يؤرخ لأول معرض فني بحريني لبيع اللوحات التشكيلية العام 1960 في المنامة أقامه العريض بنفسه وفتحه لزملائه الفنانين فيما بعد لعرض لوحاتهم بل والرسم فيه، وقد ذكره جيمس بلغريف في كتابه الإعلامي «أهلا بكم في البحرين». وفي تلك السنوات أنتج العريض أهم أعماله الفنية بين الحبر الصيني والمائية والزيتية مثل (عين قصاري، مسجد الرفيع، ساحل السنابس عند الغروب، رجل في زقاق، سوق الطواويش، سوق الخميس، سوق العجم، عربة الرمل، دكان قديم، السوق)، وغيرها.

وجاء ختام سنواته العشر هذه بمساهمته في بذر فكرة «جمعية الفن المعاصر» العام 1969 ثم إشهارها العام 1970، والتي مازال عضواً فاعلاً بها وفي مرسمها حتى اليوم، بل هو ربما من الفنانين التشكيلين الوحيدين حاليّاً بتواجده الدائم في مرسم الجمعية بالجفير.

وبين أعوام 1970 و2010 يستعرض صاحب «أيام الفن والأدب» جوانب انتشار أعماله في المعارض محليّاً وعربيّاً وعالميّاً خلال مسيرته الفنية بين مسقط، الإمارات العربية، السعودية، الكويت، دمشق، الجزائر، المغرب، القاهرة، الأردن، إيران، أوزبكستان، الفلبين، كوريا الجنوبية، اسبانيا، باريس، أمستردام، جمهورية التشيك، لندن، دكا، سنغافورة، وغيرها. وإصداره لعدة كتب منها «نافذة على التاريخ» عن عائلة العريض البحرينية، وكتاب عن حركة الفن التشكيلي في البحرين، وهذا السفر الفني التاريخي الأدبي الذي طفنا بموجز من صفحاته خلال أسطر الزمن الماضي والحالي. إلا أن ما ينقص هذا الإصدار المهم في تاريخ الفن التشكيلي البحريني الأصيل هو التنسيق والفهرسة الحديثة بشكل يسهل على القارئ تتبع جميع جوانبه القيمة حقاً.

العدد 3906 - الجمعة 17 مايو 2013م الموافق 07 رجب 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً