العدد 3906 - الجمعة 17 مايو 2013م الموافق 07 رجب 1434هـ

شعرية الخطاب في ديوان البحارنة «في خاطري... يبكي الحنين» (7)

من مظاهر شعرية الخطاب الشعري عند تقي البحارنة اشتغاله على مجموعة من الظواهر الفنية، واهتمامه بالتشكيل الشعري لنصوصه الشعرية على مستوى آليات التعبير وتقنيات التصوير، منها:

خطاب التقابل

من أهم التقنيات الفنية الأساس في هذه التجربة الشعرية التركيز على الثنائيات والاهتمام بخطاب التضاد والتقابل: الموت / الحياة، الغياب / الحضور، الذاتي / القومي، الخاص / العام، الواقع / الخيال، الدنيا / الدين، الحاضر/ الماضي.

وهذه الثنائيات تعكس رؤية الشاعر للعالم ومستوى وعيه ودرجة تفاعله مع الواقع المادي والبشري المحيط به. كما أنها علامات دالة على بنية التوتر التي يتأسس عليها الخطاب الشعري عند البحارنة. ويحضر التقابل على شكلين لفظيّاً ودلاليّاً:

يا غائباً.. يا حاضراً

صنته قاص وداني

الحظ يأتيك إقبالاً وإدباراً

إني أحبك مضطراً و مختاراً

قد كان في أهله خير منقلب

وصار بعدهمُ في سوء منقلب

لا شأن لي بالناس رائحات غاديه

فكم طويل عماد في خلائقه قزم

وقزم بدنيا المكرمات علا

ومن صور التقابل الدلالي ما يحفل به هذا النص:

بعضهم يقتل وقتاً ضائعاً، وبعضهم يبحث عن أمان

بعضهم ينثر حبّاً للعصافير التي تحوم في المكان

وبعضهم تخاله محنطاً.. في متحف الإنسان

يعيش في الحاضر لا يعبأ بالزمان

وبعضهم فوق حصان طائش، يجري بلا عنان

خطاب الترادف

كما اشتغل الشاعر على خطاب الترادف بشكل مكثف ليزيد في تدعيم دلالة النصوص وفي إحداث الوقع الجمالي لدى المتلقي:

عم الأسى فبكى الصغير وأجهش الشيخ الجليل

نزل القضاء فليس يجدي اليوم.. نوح أوعويل

ظمأ الشعر روحه العطشانه

فينم الشعر الجميل عليه ناشراً فوق حسنه أفنانه

ذو الفضل فيها قانط ويؤوس

نجوم هدى في دربه وشموس

شعرك الفياض جوهرة زانها در ومرجان

والحاضرون أحباء وخلان

فللسعادة تطريب وألحان

ويا شوقها أن تلثم اللحد والقبرا

خطاب التناص

كان للتكوين الثقافي المتنوع للشاعر تأثير قوي على البنية الفنية لنصوصه الشعرية، حيث تحضر أصوات كثيرة، وتتحاور نصوص قديمة أدبية ودينية، وتتناص فيما بينها لتخلق نتاجاً شعريّاً متعدد الظلال وغنيّاً بالإحالات. حيث استطاعت موهبته الشعرية امتصاص العديد من النصوص، وفي مقدمتها النص القرآني، وعملت على تضمينها بشكل فني دالٍّ على امتلاك قوى لزمام القول الشعري، ودالٍّ أيضاً على مقدرة فائقة على تكييف النصوص المختلفة مع السياقات الشعرية.

اضرب بعصاك الحجر الصلد...

ألقت عصاها...

وكلبهم رابعهم...

ومشوا حيارى مهطعين...

كل يغني على ليلاه...

بها الطليعة من حمالة الحطب.

يجتث دابرهم كما يجب.

والباقيات الصالحات...

بمعتصم نادت فلبى نداءها...

وأقسمت بالزيتون والتين ضارعا...

الصبح موعدنا...

ومن قبيل التناص تحضر تقنية التضمين كعلامة دالة على مرجعيات الشاعر الفنية وعلى مصادر ثقافته الشعرية:

ومن البلية عذل من لا يرعوي

إذا رأيت نيوب الليث بارزة....

تعطيك من طرق اللسان حلاوة....

خطاب التصوير

إن الشعر عموماً تفكير بالصور، يتم من خلاله ترجمة العواطف والأفكار والمواقف بلغة واصفة وبتقنيات أسلوبية تعيد تشكيل العالم من جديد، وتعيد بناء العلاقات بين الذات ومحيطها المنظور وغير المنظور. ولهذا تعد الصور الشعرية أهم العلامات الدالة على مستوى الأدبية في العمل الشعري، وعلى مدى خصوبة الخيال وأصالة الخلق الفني، بل يعد ابتكار الصورة الشعرية معياراً تقاس به الشاعرية ودرجة الإبداع.

وبالنظر إلى المادة الشعرية في الديوان نكاد نسلم بوجود وعي تشكيلي لدى الشاعر وإدراك لأهمية التصوير الفني في العمل الشعري. ولهذا نلاحظ عناية كبيرة بهذا الجانب فقد عمل في الكثير من المحاولات على ابتكار صور شعرية أصيلة من صميم المعاناة الشعرية سواء في أشعاره الملتزمة أو الوطنية أو الوجدانية أو المناسباتية أو الإخوانية. وبهذا الوعي الفني تحولت نصوصه الشعرية إلى لوحات فنية تتقاطع فيها الأصوات والألوان والحركات، إلى جانب حضور لافت للآليات البلاغية والأساليب البيانية من تشبيهات واستعارات ومجاز، مع توظيف ذكي للغة شعرية متعددة المصادر؛ واقعية ورومانسية وتراثية.

إن حضور الصوت والحركة واللون في تشكيل المادة التصويرية أعطى للشعر زخماً فنيّاً كبيراً ووقعاً جماليّاً قويّاً يزيد من درجة التجاوب والتفاعل بين الأثر الأدبي ومتلقيه. كما أن حضور هذه العناصر التشكيلية عكس أحوال الشاعر النفسية والوجدانية، بحيث تعتبر هذه الآليات التصويرية جسرا فنيا للدخول إلى العالم الداخلي للشاعر. وقد ارتبطت هذه العناصر بذكر الوطن، الموت، المقاومة، المرأة، السفر، الأشواق، وكانت كل هذه المجالات مسرحاً لصخب حركي وصوتي ولوني:

العفو عفوك شاملا

كالسيل جاء عرمرما (الحركة)

وإذا ترتل بالأذان مؤذن

ضج النحيب ورددته مآتم ( الصوت)

يخال جعجعة الوغى طربا

وضجيجه نوعاً من الغزل (الحركة والصوت)

تعمل في الصمت كالعنكبوت

وكالنحل ترشف أزهارها (الحركة والصوت)

ملتفة أغصانها كالعرس

عانقها العريس (الحركة)

كعود الند قلب الصب

يزكو كلما احترقا (الحركة)

ومضى الركب في دجى الليل

فأين الشموس والأقمار (اللون)

غارقاً في الأرجوان (اللون)

وأخضر منه جانب

وأبيض مثل الصبح ثاني (اللون)

إن توظيف ألفاظ اللون والحركة والصوت في الصياغة الشعرية يعطي للمعنى ظلالاً جديدة، ويساهم في تحقيق الانجذاب والإثارة. فهو لغة إيحائية ورسالة رمزية خاصة تعين الشاعر على تحقيق الدلالة المقصودة، وتضفي بتضافر مع آليات التشكيل البيانية طابعاً جماليّاً على النص الشعري. ولهذا لم يأت استخدام هذه العناصر بقصد التزيين أو الزخرفة أو التأثيث السطحي للعمل الشعري، بقدر ما كان استخدامها لأداء وظيفة تعبيرية تترجم نظرة الشاعر إلى الذات والحياة، وتحمل رغبته في تشكيل عالمه الخاص بما يلائمه من أصوات وألوان وحركات. وبهذا نخلص إلى كون الشاعر قد تجاوز في تجاربه الشعرية مستوى إيقاع الإنشاد الكلاسيكي إلى مستوى إيقاع الرسم بالكلمات والإشارات بحسب الرؤية الحداثية للكتابة الشعرية.

خاتمة

هكذا تتكامل عناصر الخلق الشعري في هذا الديوان، كما تتكامل أدوات الإنشاء الشعري عند صاحبه الذي لم يتنازل قط عن شروط الأداء الفني الرفيع. فقد كان يبدع وينتقد، ينشئ ويصحح، يقول الشعر ويشذب رياضه من الطفيليات العالقة به. كان حريصاً على الوفاء لمفهومه للشعر ولرسالته. لم يجعل شعره ترفاً فنيّاً مقصوداً لذاته، ولم يسخره تسخيرا انتهازيا لغيره، ولم ينزله من عرشه وكبريائه، وإنما جعله نافذة فنية نطل من خلالها على صخب الحياة بكل متناقضاتها وبكل قضاياها وأسئلتها، باعتبار هذا الشعر تعبيراً لرؤية خاصة للعالم ووعياً بما يحيط بالشاعر من قضايا سياسية واجتماعية وثقافية. وقد أكد الشاعر من خلال هذا الديوان أن الرسالة الفكرية والإنسانية في الشعر يمكن أن تؤدي غرضها وتحقق هدفها من دون أن تخمد جذوة الفعل الجمالي.

العدد 3906 - الجمعة 17 مايو 2013م الموافق 07 رجب 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً