العدد 3906 - الجمعة 17 مايو 2013م الموافق 07 رجب 1434هـ

المصوّر عاشق الخيل الذي بدأ بالكتابة عن «بنت البحرين» وانتهى إلى ثورة الزنج

وزيرة الثقافة في افتتاح معرض أبنائه الثلاثة العام 2010
وزيرة الثقافة في افتتاح معرض أبنائه الثلاثة العام 2010

قصته استوقفتني في معرض منتجات السجناء الذي أقامته جمعية «أمل» الشهر الماضي، فبينما غلب على منتجات السجناء الأعمال اليدوية والسبحات والمشغولات الفنية التي تعتمد على المهارات اليدوية، فإن الركن الذي خُصّص للمصوّر محمود عبدالصاحب أحمد عرضت فيه مجموعة من المخطوطات ومشاريع الكتب، في ميادين الفكر والتربية والتاريخ والشعر.

كانت زوجته معصومة كاظم تقف أمام مؤلفاته وهي تشعر بالفخر، سألتها عن هذه المفاجأة، فروت لي حكايته من البداية: بدأ محمود العمل مراسلاً في اتحاد الفروسية، وترقى في وظيفته بجهده حتى عمل سكرتيراً، فمساعداً إدارياً، حتى انتهى إلى آخر منصب شغله: «مشرف الأنشطة الرياضية بالاتحاد الملكي للفروسية»، كما عمل محكماً دولياً في سباقات القدرة في البحرين وعدد من الدول العربية مثل السعودية ولبنان والمغرب.

لديه ولع خاص بالتاريخ حيث حصل على البكالوريوس من جامعة بيروت، والدبلوم العالي من جامعة القديس يوسف في بيروت (2007). ومن هواياته الرسم والتصوير، ومن هنا التقت هوايتا التصوير مع الفروسية.

تضيف الزوجة: لدينا متحف مصغّر في البيت، عملات قديمة، أجهزة، كاميرات، وأينما يسافر كان يجمع هذه المقتنيات القديمة. وأكثرها اختفى أثناء مداهمة المنزل لاعتقاله يوم 15 مارس/ آذار 2011. كما أن لديه اهتماماً بالرسم ولدينا مرسم بالبيت، وورّث هذه الهواية لأبنائه الثلاثة (فاطمة 14 سنة - حسن 12 سنة – سارة 10 سنوات)، وقد نظّم معرضاً لأبنائه الثلاثة في مكتبة الأطفال بالمحرق حضرته وزيرة الثقافة الشيخة مي آل خليفة، وكان ذلك أيام تأبين الشاعر الراحل غازي القصيبي.

في 2011 حيث بلغت الأحداث ذروتها، كانت كاميرته تلازمه، وفي أيام السلامة الوطنية ألقي القبض عليه عند نقطة تفتيش، وبعد أسبوعين من اختفائه اتصل طالباً ملابس وأدوات صحية. قبل اتصاله بأيام تمت مداهمة المنزل وتكسير المحتويات واختفى اللابتوب والكاميرات القديمة والساعات. والأكثر إيلاماً المتحف المصغر: مجسمات الخيول من الكريستال والشهادات، والمرسم تم تدميره تماماً، كما تم تكسير الخزائن والألعاب في غرفة الأطفال.

بعد أقل من شهرين نُقل إلى الحوض الجاف، وفي الجلسة الأولى للمحكمة، وجهت له تهم التجمهر في الدوار، وفبركة الصور. وعندما قابلناه للمرة الأولى بعد الاعتقال بدا وكأن عمره تسعون عاماً، وكان عاجزاً عن المشي.

الحكم الأول خمس سنوات في المحكمة العسكرية، ولكن بعد الاستئناف خُفّضت الفترة إلى ثلاث سنوات، وقد أمضى سنتين وباقي سنة تقريباً.

بعد نقله إلى جو، برزت مشكلة أخرى في أول شهرين، حيث أودع مع سجناء جنائيين من الآسيويين، وحين قابلناه في شهر أغسطس/ آب، كان لونه أصفر، ولم يكن يُسمح له بالخروج من الزنزانة، وبدا ساهماً، فأخذ يسأل عن إحدى أخواته بينما كانت تجلس أمامه. وخاطبت إدارة السجن بشأن حالته الصحية والنفسية، فوعد بتحسين وضعه، وكانت فترتها بداية وصول محمود شريف بسيوني. وحين زارت جو نفوا وجوده في السجن، فأصرّت اللجنة على مقابلته. بعدها بدأ الوضع يتحسن، وعموماً الوضع داخل السجن يرتبط بالأوضاع خارجه، فكلما حدثت أحداث بالخارج يتعرض السجناء لضغوطات أو تحدث لهم انفراجات. وهكذا سمحوا لهم بالخروج من الزنزانة ساعتين في الصباح، وساعتين في المساء.

حياة العائلة

بعد اعتقاله بأسبوع أرسلت إليه رسالة بإنهاء عمله بعد 20 سنة من الخدمة، وبعد رسالة الإقالة لم يحصل على أية حقوق.

أما في السجن، فقد بدأت حياته تستقر نوعاً ما، وسُمح لهم فقط بإدخال كتب الأدعية والقرآن الكريم. أما الكتب الأخرى فيتم التشديد على دخولها، دون وجود قانون ينظّم ذلك، فلا يسمح للسجين بإدخال أكثر من كتابين، لكن السجناء يتبادلونها بينهم.

كان محمود ألّف كتاباً بالانجليزية بعنوان ( the legend ) «الأسطورة»، قام بطباعته «الاتحاد الملكي البحريني للفروسية وسباق القدرة» (2010)، ويتحدّث عن البحرين في فجر الاسلام والقلاع والخيول العربية في البحرين، مطعّماً بصور مسجد الخميس وصناعة الفخار وقلعة البحرين قبل وبعد الترميم، وقلعة عراد، بالإضافة إلى صور الصقور والخيول العربية، مركّزاً على «بنت البحرين»، تلك الخيل التي أهداها حاكم البحرين العام 1903 إلى الخديوي عباس باشا في مصر.

من هذه الخلفية انطلق محمود عبدالصاحب في الكتابة التي كانت هوايةً متنحيةً لسنوات طويلة، مستفيداً من الوقت الوفير ومن سماح إدارة السجن له باقتناء دفاتر من الكانتين، فبدأ يكتب مخطوطات بالقلم الرصاص، وتخضع للمراجعة والرقابة وبعدها تُسلّم للأهل في الزيارة التالية. ومع ذلك ظلت مشكلة تقييد دخول الكتب وعدم السماح بدخول المراجع، والاكتفاء بالمراجع القديمة... لكن ذلك لم يمنعه من الانطلاق.

خلال العام 2012، استطاع عبدالصاحب أن يؤلف مجموعةً كبيرةً من المخطوطات، وكلها مشاريع كتب مستقبلية، ربما تحتاج إلى مراجعة وتدقيق لاحقاً قبل تسليمها للمطبعة. وهكذا ألف «حضارة دلمون... أرض جزائر النخيل»؛ «الصورة والضوء... الزمان والمكان والإنسان: دراسة انثروبولوجية»؛ «الحقب الزمنية للحضارة الإنسانية»؛ «التجربة الإنسانية والفلسفة التاريخية»؛ «ملمس الكلمات» (خواطر ومقالات فكرية)؛ «الوجيز في منهجية بحث التاريخ... اركيولوجيا الفكر والمعرفة»؛ «ملاحم الأيام»؛ «حركة علي بن محمد العبقيسي» (صاحب الزنج)؛ «المدرسة التاريخية الإسلامية»؛ و»رؤى في تغيير السلوك»، وهو مستمد من واقع برنامج جلسات الإرشاد الجماعي للمدمنين التي تنظمها إدارة السجن).

بالإضافة إلى هذه المجموعة المتنوّعة، هناك مجموعات قصائد: «أصداء»، «وصال»، «رائحة البحر»، «قيثارة دلمون»، يتحدث في إحداها عن طفله بقوله: «حسن يؤلف القصص الحسان. وحكايات كان ياما كان. وسوالف الدهر والأزمان. حسن أقصوصة. وديع كان في نصف جيهان. ربيع قامته ليل وعنان».

تختم الزوجة اللقاء وهي تتحدث بلغةٍ شاعريةٍ عن هذه التجربة التي عصفت بالعائلة وهي تسبح في بحر التأملات: «لقد شكّل الاعتقال نقلةً كبيرةً في حياتي، نبهتني إلى جوانب كنت غافلةً عنها. ليس صحيحاً أن من يجتهد يُكافأ ويحصل على ما يستحق. كنت أنانيةً، أعيش في زجاجة، الآن أصبحت أقرب إلى الناس، فما لاقوه ليس سهلاً. وأنا مؤمنةٌ بأن الدنيا تسير نحو الأفضل. ربما هناك عثرات، وبعضها كبيرةٌ وعميقةٌ، لكنها ستكون للأفضل، وتحتاج إلى صبر».

العدد 3906 - الجمعة 17 مايو 2013م الموافق 07 رجب 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً