في تعليقنا على نصوص قانون العمل الجديد الصادر بالمرسوم بقانون رقم (36) لسنة 2012 كنا قد وقفنا في الحلقات الماضية على بعض نصوصه، ورأينا ما حملته من أحكام اتسمت بالعَنَت وعدم الانصاف نحو العمال. فضلاً عن جملة من العيوب المختلفة في الصياغة وغيرها التي وطأت هذا القانون لسبب أو لآخر.
وفي هذه الحلقة سنقف على آخر النصوص المتعلقة بـ «انقضاء عقد العمل» تكملة لما وقفنا عليه في الحلقين الأخيرتين لنرى ما هو أشد من العَنَت وعدم الإنصاف، وهو الظلم الذي انتهجه هذا القانون بحق العمال.
أولاً: تنص المادة رقم (109) من القانون المذكور «لا يجوز لصاحب العمل إنهاء عقد العمل بسبب تدني كفاءة العامل أو نقصها إلاّ بعد إخطاره بأوجه عدم الكفاءة أو النقص ومنحه فرصة ومهلة مناسبة لا تقل عن ستين يوماً للوصول إلى المستوى المطلوب، فإذا أخفق العامل جاز لصاحب العمل إنهاء عقد العمل بعد توجيه إخطار إلى العامل...».
هذا النص (المخلوق القانوني الغريب) لا نراه سوى قنبلة موقوتة مدمرة تنتظر العمال قد خَلَقَه قانون العمل الجديد خلقاً لم يكن قبله مخلوقاً. ولا نعتقد أن هناك قانوناً غيره سيَخلِقُه. ولعلنا بداية نفطِنُ من ثنايا هذا المخلوق القانوني الغريب أنه سيوّلِد سبباً يُضاف إلى الأسباب القانونية التي ينتهي بموجبها عقود العمل أياً تكن نوعها (محددة المدة أو غير محددة المدة)، بالإضافة إلى ذلك فهو يحمل في ثناياه غايةً خفيةً تتمثل في منح أصحاب الأعمال المبرر القانوني للتخلّص ممن يشاءون من عمّالهم بذريعة عدم كفاءتهم أو نقصها بعد أي فترة من الخدمة يقضونها طالت هذه أم قصرت.
إنَّ هذا المخلوق القانوني الغريب هو بحق مولود شاذ مشوَّه معيب لم نسمع عنه لا في الدول الرأسمالية ولا في الأنظمة الإقطاعية، وشذوذه أو تشوهه لا يكمن في غايته الخفية كما بينا وحسب، إنما لكونه فوق ذلك جاء مخالفاً لمبدأ قانوني راسخ هو «عدم إخضاع العامل للتجربة أكثر من مرة». وهذا المبدأ قد صُبَّ في قاعدة لا يجوز مخالفتها أقرتها جميع التشريعات ومنها قانون العمل الجديد نفسه في المادة رقم (21/ج). وأنه بمقتضى هذا المبدأ لا يحق لصاحب العمل متى اجتاز العامل فترة التجربة بنجاح (ويعني بذلك ثبوت كفاءته) أن يفصله من العمل بعد ذلك بدعوى عدم كفاءته. وإذا ما أخذنا هذه القاعدة كمبدأ ثابت راسخ وتمسكنا بها احتراماً وتطبيقاً فكيف يستقيم ذلك الحكم بجواز فصل عاملٍ قد اجتاز فترة التجربة بنجاح وثبتت كفاءته خلالها لمجرد الادعاء بعدم كفاءته بعد أن يمضي سنوات من الخدمة. أليس هذا بحق مولودٌ مشوّهٌ معيبٌ يتعين سلخه من القانون؟
ثانياً: جاء في المادة رقم (110) من قانون العمل الجديد: بأنه «يجوز لصاحب العمل إنهاء عقد العمل بسبب إغلاق المنشأة كلياً أو جزئياً، أو تقليص حجم نشاطها، أو استبدال نظام إنتاجٍ بآخر بما يمس حجم العمالة...».
هذا النص لا يختلف عن النص السابق من حيث غايته ومرماه وهو منح أصحاب الأعمال مبرّراً إضافياً للتخلّص من العمال بسبب تقليص حجم نشاط المنشأة، أو حتى بسبب تغيير أو تعديل نظام الإنتاج.
وقد نؤمن من حيث المبدأ بوجاهة تلك الأسباب كمبرر لإنهاء عقود العمل غير محددة المدة فقط، إنما يستوقفنا في هذا الجانب أمرٌ سبق وأن تعرضنا له في إحدى الحلقات السابقة وهو إلغاء المادة رقم (13) من قانون العمل القديم التي تقضي بمنح الأفضلية في الاستخدام للعامل الوطني في حالة زيادة عدد العمال، أو نقص حجم العمل، أو في حالة استبدال نظام الإنتاج. وهذا ما يجعلنا نؤكد مرةً أخرى أنه بإلغاء المادة رقم (13) سابقة الذكر وبتكريس المادة رقم (110) محل البحث، يصبح العامل الوطني هو الوحيد المستهدف في عمله ومعيشته واستقراره من قبل قانون العمل الجديد.
ثالثاً: جاء في المادة رقم (111) ما يلي:
أ – «إذا أنهى صاحب العمل عقد العمل غير محدد المدة خلال الأشهر الثلاثة الأولى من تاريخ بدء العمل فلا يستحق العامل أي تعويض إلاّ إذا كان الإنهاء بمثابة فصل تعسفي طبقاً لأحكام المادتين (104) و(105) من هذا القانون، وفي هذه الحالة يستحق العامل تعويضاً يعادل أجر شهر».
ب – «إذا أنهى صاحب العمل عقد العمل غير محدد المدة بدون سبب أو لسبب غير مشروع بعد انقضاء ثلاثة أشهر من تاريخ بدء العمل، التزم بتعويض العامل بما يعادل أجر يومين عن كل شهر من الخدمة وبما لا يقل عن أجر شهر ولا يزيد على أجر اثني عشر شهراً».
فبالنظر إلى أحكام الفقرتين السابقتين نزداد يقيناً على يقين بأن قانون العمل الجديد قد نفض يده عن العمال، بل أنه أمعن في استهدافهم واستخف بهم وكأنه في خصامٍ معهم، وذلك عندما يصل الأمر به إلى المستوى الذي يُعطي الحق لصاحب العمل في فصل العامل خلال الشهور الثلاثة الأولى من خدمته بدون إخطار وبدون تعويض، بل وبدون أدنى مساءلة، سواءً كان الفصل بمبرر أم بغير مبرر، وسواء كان العقد بشرط التجربة أم بدونها، وذلك بحسب نص الفقرة (أ) أعلاه.
لقد بحثنا في كافة قوانين الكرة الأرضية فلم نجد نصاً يبيح لصاحب العمل فصل العامل على النحو السابق. فلا ندري يا ترى ما الحكمة من ذلك وما هو الأساس الذي أقام عليه هذا القانون حكمه السابق؟ ...إلاّ أن نُسَّلم بأنه استخفاف وضرب من ضروب الظلم.
والاستخفاف الأعظم والظلم الأكبر الواقع على العمال هو ما جاءت به الفقرة (ب) أعلاه التي قدرت التعويض عن الفصل التعسفي بما يعادل أجر يومين عن كل شهر من الخدمة. فلو افترضنا مثلاً أن خدمة أحد العمال قد بلغت ثلاثين شهراً، وقرّر صاحب العمل فصله من العمل بدون سبب أو لسبب غير مشروع، فتعويضه عن هذا الفصل لن يتجاوز أجر شهرين فقط. وكأن قانون العمل الجديد في هذه الحالة قد فتح الباب على مصراعيه لأصحاب الأعمال ليقوموا بفصل العمال في مقابل تعويض زهيد.
وهذا الاستخفاف ليس بسبب ذلك التعويض الزهيد وحسب، بل أن موطن هذا الاستخفاف الحقيقي يكمن في أن المشَّرع (الجديد) أقام نفسه مقام القاضي في تقدير التعويض عن الفصل (أي التعويض عن الضرر) خلافاً لما كان عليه قانون العمل القديم لسنة 1976 الذي أعطى للقاضي وحده - طبقاً لنص المادتين رقمي (108) و(109) - حق تقدير التعويض مع مراعاة العرف الجاري، وطبيعة العمل، إلى غير ذلك من الأحوال التي يتحقق معها وقوع الضرر. وكذلك خلافاً لما نص عليه القانون المدني، حيث ينص في المادة رقم (178/أ) بأن «يحدد القاضي التعويض بالقدر الذي يراه جابراً للضرر مع مراعاة الظروف الشخصية للمضرور». فهذا هو عين الصواب ومنطق الحق، أما ما أخذ به قانون العمل الجديد على نحو ما تقدم فهو عين الخطأ وهو الظلم بعينه. ذلك لأن التعويض عن الضرر هو من مسائل الواقع يخضع لتقدير القاضي وحده، بالنظر إلى عناصر ومقومات وظروف يجب عليه مراعاتها في تقديره للتعويض. ومن ثم لا يجوز أبداً أن يخضع التعويض لتقديرٍ حسابي مسبق وثابت بحسب ما نص عليه قانون العمل الجديد على نحو ما تقدّم بيانه.
إن من المتفق عليه فقهاً وقانوناً: أن الضرر الواجب التعويض عنه ينقسم إلى قسمين: الضرر المادي، والضرر المعنوي (الأدبي).
فأما الضرر المادي فهو يتمثل فيما يصيب العامل المفصول من ضرر بانقطاع مصدر رزقه، ويدخل في دائرته كذلك التعويض عن تفويت فرصة طبقاً لنص المادة رقم (161) من القانون المدني بقولها: «يتحدد الضرر الذي يلتزم المسئول عن العمل غير المشروع بالتعويض عنه بالخسارة التي وقعت والكسب الذي فات...».
وأما الضرر الأدبي فيتمثل فيما يصيب العامل المفصول في شعوره وعاطفته، وهذا ما أشارت إليه المادة رقم (162) من القانون المدني من «أن التعويض عن العمل غير المشروع يتناول الضرر ولو كان أدبياً... ويشمل الضرر الأدبي ما يستشعره المضرور من الحزن والأسى».
وبناءً على ما تقدّم، فإن التعويض المعني في هذا الموضوع يجب أن يُقدر وفقاً لمقومات وعناصر الضرر، وتبعاً للظروف التي تحيط بالمضرور (وهو العامل المفصول) وعلى القاضي مراعاة ذلك كله في تقديره لهذا التعويض.
ويتفق الفقه على أن من عناصر الضرر التي يجب مراعاتها بالنسبة للعامل المفصول - هي على سبيل المثال لا الحصر ما يلي: اقتراب العامل المفصول إلى سن التقاعد عندما يصعب عليه الحصول على عمل في هذا السن المتقدم، أو في حالة ما إذا فُصل المدرس في منتصف العام الدراسي فيستحيل عليه الحصول على وظيفة في النصف الأخير من الفصل الدراسي، أو عندما يكون العامل المفصول قد وصل إلى سدة الرئاسة وبأجر مرتفع فيصعب عليه الحصول أو الوصول إلى هاتين الميزتين. أو عندما يكون العامل المفصول منتدباً لفترة معينة ثم يُفصل قبل انتهاء هذه الفترة فيؤدي فصله إلى تعطله عن العمل بقية فترة الانتداب المقررة في الأصل. بل وأهم عنصر من عناصر تقدير التعويض هي الظروف الاجتماعية التي تحيط بالعامل المفصول؛ كأن يكون متزوجاً يعيل عائلة كبيرة، أو كان ملتزماً بالتزامات مالية أو قروض واجبة السداد. إلى غير ذلك من العناصر التي يجب مراعاتها في التعويض.
وخلاصة القول: أنه وفقاً للقواعد العامة، وبناء على أحكام القانون المدني، وباتفاق الفقه والاجتهاد أن التعويض عن الضرر الناجم عن الفصل التعسفي يُقدّره القاضي، على أن يُراعي مجمل العناصر السابق ذكرها، مع النظر إلى الظروف التي تحيط بالمضرور (وهو العامل المفصول). ولا يجوز مطلقاً تحديده تحديداً حسابياً ثابتاً على النحو الذي نص عليه قانون العمل الجديد.
وحيث أن هذا القانون قد زاغ عن القاعدة العامة، وعن أحكام القانون المدني، وعن اتفاق الفقه والاجتهاد، فإن أقل ما نقول له «تباً لك من قانون سيء».
ولنا لقاء آخر في الحلقة القادمة لنثبت مجدداً أن هذا القانون هو أسوأ قانون عصري تشهده مملكة البحرين.
إقرأ أيضا لـ "علي محسن الورقاء"العدد 3906 - الجمعة 17 مايو 2013م الموافق 07 رجب 1434هـ
التضاد والتناقض في قانون العمل في عصر تجاري
كيف يكون منصوص ومقطوع نصف الحقيقة بمرسومه بقانون؟ هنا القانون ثابت ولا يتغير مع الزمن ولا الأهمية التي يعلقها الناس على تنظيم علاقة التعامل بين العامل ورب العمل. فعقد العمل والاتفاق يكون العامل جزء مهم للانتاج وليس أداة تستخدم متى ما أراد التاجر استخدامها وبشروط يحددها تاجر أو سوق. فالعامل إنسان له الكرامة والاحترام بناءً على قدرته وكفائتة، بينما الآله لا تساوي قيمتها قيمة الانسان. هذه حقيقة لا يغيرها قانون وضع لحماية التاجر وإهمال حق العامل وهذه من نقاط ضعف مخلة بالقانون وأكثر مواده متضاره.