تداعيات كارثة تشرنوبل أثارت فضول الباحثين عن معرفة واقع وأبعاد تلك الأحداث، ودفعتهم إلى المغامرة وتجاوز الحواجز الفولاذية لفكّ رموز المعادلة الصعبة المحيطة بآثارها المحتملة، ومن هؤلاء الكاتب والصحافي الأوكراني المعروف «يوري تشرباك»، الذي أصبح وزيراً للبيئة فيما بعد وسفيراً لبلاده.
وقد كتب تشرباك يصف فظاعة الموقف بقوله: «عندما وصلت إلى تشرنوبل بدا لي، وليس لي وحدي، أنني دخلت في عالم غريب مسحور، تغلب عليه الألوان الشريرة غير المرئية لمستوى الإشعاع، ورأيت هناك ما كانت تصعب رؤيته قبيل ذلك في أكثر الأحلام خيالاً وغرابةً. لقد كانت هذه البلدة من دون سكان، من دون أصوات الأطفال الرنانة، من دون حياة يومية عادية بطيئة. وكانت الأبواب والنوافذ موصدة، وكانت جميع البيوت والمؤسسات والمخازن مغلقة ومختومة، وعلى شرفات البنايات ذات الخمسة طوابق كان المرء يرى الدراجات والغسيل المنشور، ولم يبق في البلدة وجود للحيوانات الأليفة تقريباً، ولم يعد يُسمع خوار الأبقار في الصباح، ولم تكن هناك سوى الكلاب المتشردة تتراكض هنا وهناك. وكنت تسمع صأصأة الدجاج، وزقزقة العصافير على أوراق الشجر، فالعصافير لم تكن تعرف أن أوراق الأشجار المغبرة أصبحت مصدراً للتلوث الإشعاعي في تلك الأيام.
ولكن حتى البلدة التي هجرها أهلها لم تكن ميّتةً، بل كانت تعيش بموجب القانون الصارم والجديد لنا بصورة مطلقة، قانون الطوارئ في العصر النووي، وحشد في البلدة وضواحيها كميات هائلة من المعدات التكتيكية، جرارات وبلدوزرات ضخمة، ورافعات وجرّافات وصهاريج نقل الاسمنت، وتحت شبكات التمويه المبقعة كانت تربض محطات الراديو والشاحنات العسكرية، وأمام مبنى لجنة الحزب واللجنة التنفيذية حيث جرت قيادة العملية بأسرها، كانت تقف عشرات السيارات الرسمية السوداء اللون، وكأنه كان ينعقد هنا اجتماع على أعلى المستويات، وبعض هذه السيارات التي امتصت الأشعة تُركت إلى الأبد.
وعلى مشارف تشرنوبل، كانت تعمل عشرات النقاط لقياس الأشعة، حيث جرى تفتيش دقيق وصارم على السيارات والجرّارات، وفي الساحات الخاصة كان جنود الوحدات الكيميائية ذوو الألبسة الخضراء يقومون بإزالة التلوث الإشعاعي عن المعدات التكتيكية الخارجة من المنطقة، وكانت سيارات الصهاريج تغسل شوارع تشرنوبل بصورةٍ دائمةٍ وبكمياتٍ كبيرةٍ من الماء، وكان ثمة أعداد كبيرة من رجال ميليشيا المرور في الشوارع.
لقد صُعقنا بما حدث ولم نكن ندري ما الذي علينا فعله، حيث أن بلدة تشرنوبل لا تبعد كثيراً عن مدينة كييف، وكنت مع مجموعةٍ من زملائي الطلبة في كلية القانون الدولي على أبواب التخرج، وكنا غارقين في التحضير لتقديم الامتحان النهائي في التخصّص والاستعداد للدفاع عن أطروحة الماجستير، وكان بحثي محط نكتة من قبل الأصدقاء كونه يعالج قضايا التلوث في مياه حوض الخليج العربي، وكانوا يردّدون أني تأثرت بتشرنوبل فكتبت عن التلوث.
لقد امتزج الخوف بالنكتة في تلك الظروف العصيبة من تاريخ مدينة كييف، وشاعت النكتة التي تعبر عن الخوف نتيجة الاضطرابات النفسية واللامبالاة بما يحدث، وقد شاعت نكتة مفادها أن شخصين قد ماتا وصعدت روحهما إلى السماء في تلك الأيام، وسأل أحدهما الآخر: من أين أنت؟، فأجاب: من تشرنوبل، وما سبب موتك.؟ من الاشعاعات، وأنت من أين؟ فاجاب: من كييف. وما هو سبب موتك؟ الإعلام!
إن الآثار الإنسانية والبيئية التي أحدثتها الكارثة، على الرغم من مضي سبعة وعشرين عاماً على وقوعها، لا تزال باقية، وشاهدة على محنة العصر المتفاقمة أخطارها الكونية، فلا تزال منطقة الكارثة ومناطق الخطر المحيطة بها خاليةً حتى الساعة من اللوحة الإنسانية الجميلة التي كانت ترسمها بسمات الأطفال، وهي خالية أيضاً من أصوات معاول الفلاحين التي تستيقظ على رنين موسيقاها الجميلة حقول بلدة تشرنوبل، المليئة بالأشجار المثمرة، كما لم تعد مظاهر الجدات والأمهات، وهنا يصطحبنا الأطفال مع إشراقة شمس الصباح إلى المدارس، تزيّن شوارع تلك المدينة الوادعة والرائعة في جمال خضرتها، حيث لم يعد هناك مجال للعيش والحياة الآمنة، فخطر التلوث الإشعاعي لايزال باقياً ويهدّد بفناء كل مظاهر الحياة والوجود الإنساني.
وبعد عشر سنوات من الكارثة حدثني أحد الأصدقاء من الدبلوماسيين العرب في العاصمة الأوكرانية كييف، عن زيارته إلى محطة تشرنوبل في سبتمبر/أيلول 1996، وأطلعني على الصور التي جرى التقاطها بالقرب من المفاعل، وتظهر فيها البنايات ذات الخمسة طوابق والبيوت الصغيرة التي تركها أهلها، وسألته عن انطباعاته فقال: «إنها مدينة جميلة، ولكنها حزينة، ليس فيها إلا البيوت المهجورة والأشجار العالية، وأصوات الطيور الجميلة ومحطة تشرنوبل الكئيبة».
إقرأ أيضا لـ "شبر إبراهيم الوداعي"العدد 3905 - الخميس 16 مايو 2013م الموافق 06 رجب 1434هـ
وهذا ما نخشاه
وهذا ما نخشاه نحن ابناء الخليج من مفاعل بوشهر النووي لانه من نفس فصيلة مفاعل تشرنوبل حيث ان نسبة الامان فيه لا تتجاوز الستين بالمائة لانه مفاعل متهالك . ولا اعلم ناذا تريد ايران بهذا المفاعل ؟ ولمن تريد صناعة القنبلة النووية ؟ وعلى من ستلقيها ؟ أليس من الافضل صرف هذه المليارات من الدولارات لفقراء ايران وللتنمية البشرية ؟
البصرة . العراق . علي جاسب