عندما تقرأ مأثوراتٍ من التراث، وحوادث الأزمنة، تكتشف أن عالَمَنا هو ذاته لم يتغيَّر. خيره وأخياره، وشرُّه وشِراره. وقد وجدتُ في بطون المأثور (الذي دَرَجتُ على تعميم ما أظفر به من طرائف وحِكَم وحتى ظُلامات قاسية على الأصدقاء صباح كل يوم) سواء التاريخي، الديني، الفكري، أو السياسي، صوابيَّة ما كان يقوله الفيلسوف اللاهوتي الدنماركي سورين كيركغارد، من أن «خداعاً واحداً فقط هو الممكن في المطلق، ألا وهو خداع النفس». وهو توصيف غاية في الدقة.
أكثر الأشياء التي يُمكن ربطها بين خداع النفس ومأثورات التراث، هو ما كان يجري في أروقة عروش السلاطين والحكَّام. النفاق، النميمة، الظلم وغيرها. وقد ثَبَتَ أن كل هذه العناوين، هي إحدى معاول الحكم الفاسد، الذي يعيش على الخداع، ويُفسَد بالنفاق، ويتنمَّر بالنميمة، ويسود بالظلم. وقد رأيتُ أن أعرِضَ بالنقل جزءًا من تلك الأحوال في هذه المقالة، لعلَّ فيه عبرةً.
إن من أكثر أوزار الراعي تجاه رعيته، والحاكم في سياسته هو ما قاله أبو حيان التوحيدي في مثالب الوزيريْن عن الصاحب بن عباد حول مدَّاحي الحكام: «هكذا يفسد من فَقَدَ المُخطِّئ له إذا أخطأ، والمقوِّمَ له إذا اعوَجَّ، والموبِّخ له إذا أساء، لا يسمعُ إلاَّ صَدَقَ سيدنا وأصابَ مولانا».
والحقيقة، أن الدَّعاء الذي يُتلَى بعد كلِّ صلاة جُمعة، حول صلاح بطانة الخير، والتحذير من بطانة الشر، هو لِجَبِّ مثل هذا المسلك، الذي يعتمده الوصوليون، وأصحاب المنافع الخاصة. فهؤلاء يشربون من دماء الناس ويستأكلون ظلاماتهم، حين لا يَنهَون عن منكر، ولا يأمرون بمعروف في حضرة الحكم، خوفاً على العطاءات، وبالتحديد، من أولئك الذين أوتوا علماً ورجاحة عقل.
لنا أن نستحضر، ما ذكره البلاذري في أنسابه، من أن أحد الخلفاء، قد أرسَلَ إلى بعض أمرائه في المناطق، يستشيرهم في شأن المعارضين له، فقال له أحدهم: جَمّرهُم وتابع البُعُوثَ عليهم، حتى يكونَ دَبَرَة دابَّة أحدهم أهم إليه من الكلام». يا اللعب من هذا النُّصح، ويا لِقَسوته!
ماذا لو قال ذلك الرجل ما قاله عمر بن عبد العزيز للجرَّاح بن عبد الله والِيه على خراسان عندما حرَّضه على قومٍ فيها «ليسَ يكفيهم إلاَّ السَّيف والسَّوط» كما قال للخليفة، فكتبَ إليه عمر بن عبد العزيز: «يا ابن الجرَّاح، أنتَ أحرصُ على الفتنة منهم. لا تضربنَّ مؤمناً، ولا مُعاهِداً سوطاً إلاَّ بالحق. واحذر القصاص، فإنك صائرٌ إلى مَنْ يعلَم خائنة الأعينِ وما تُخفِي الصدور».
وقد أثبتت الأحداث، كيف أن النصح الأول كان له أثر سيئ على دار الخلافة، في حين، كان للرأي الثاني وقع جيد على مكانة عمر. هذا هو قيمة النصح السليم. وهذه هي كلمة الحق التي يجب أن تقال في حضرة أصحاب القرار والسلطة. ماذا لو سمِعَ قاتل حِجر بن عدي (وهو أحد أكبر العُّبَّاد) صوتاً غير الذي سمعه، فهل قال الربيع بن زياد الحارثي مُعلقاً على قتله: «لا تزال العربُ تُقتَلُ صبراً بعده. ولو نَفَرَتْ عند قتلهِ لم يُقتَل رجلٌ منهم صبراً. ولكنها أقرَّت فذلَّت»!
وقد بَعَثَ مرةً هشامُ بن عبد الملك إلى الأعمَش، أن يكتبَ له مناقبَ عثمان ومساوئ عليّ. فأخذَ الأعمَشُ القرطاسَ وأدخَلهُ في فَمِ الشاةِ فلاكَتها، وقال لمُوفَدِ هشام: قُل له هذا جوابُك. فقال: إنه قد آلَى أن يقتلَنِي إن لَمْ آتِهِ بجوابِك. وتدخَّل بعضُ الحاضرينَ فقالوا: يا أبا محمد... افتَدِهِ من القتل. فلما ألحُّوا عليه كتبَ: أما بعد يا أمير المؤمنين، فلو كانت لعثمان مناقِبُ أهلِ الأرضِ ما نَفَعَتك، ولو كانت لعليٍّ مساوئ أهلِ الأرضِ ما ضَرَّتك، فعليكَ بِخُوَيْصَةِ نفسِكَ والسلام.
نعم... إذا لم يجِد ذوو الحِجا ما يقولونه للحاكم من خير، فلا شأن لهم ببابِه. وإلاَّ أصبحوا من أعوانه وأدواته حين يقع الظلم. وقد قال خيَّاطٌ لابن المبارك: أنا أخِيطُ ثيابَ السلاطين، فهل تخافُ أن أكونَ من أعوان الظَّلَمَة؟ فقال: لا... إنما أعوان الظَّلَمَة مَنْ يبيعُ لك الخَيْطَ والإبرَة. أما أنتَ فمِنَ الظَّلَمَة أنفسهم». فالأصل، أن تقريب هؤلاء هو للمنفعة والاستعانة بهم في تسيير أمور الحكم. خيرها وشرها. وما الموائد الموضوعة أمامهم إلاَّ لكي لا تتلعثم ألسنتهم عن قول غير «نعم».
وقد جاء في كتاب إحياء علوم الدين أنه «لا تسمحُ نفوس السلاطين، بِعَطيَّةٍ إلاَّ لِمَن طَمَعُوا في استخدامهم، والتكثُّر بهم على أغراضهم، والتجمُّل بحضور مجالسهم، وتكليفهم المواظبة على الدعاء والثناء والتزكية والإطراء في حضورهم ومَغِيبهم، فلو لم يُذِلَّ الآخذُ نفسَهُ بالسؤال أولاً، وبالتردُّد في الخدمة ثانياً، وبالثناء والدعاء ثالثاً، وبالمساعدة له على أغراضه عند الاستعانة رابعاً، وبتكثير جَمعِهِ في مجلسه وموكبهِ خامساً، وبإظهار الحب والموالاة والمعاصرة له على أعدائِهِ سادساً، وبالتسترِ على ظُلمِهِ ومقابِحِهِ ومساوئِ أعماله سابعاً، لم يُنعِمْ عليه بدرهمٍ واحد».
لقد ذكر المسعودي في مروج الذهب من أن شُرَيْكاً بن عبد الله قد أُدخِلَ على المهدي بن المنصور، فقال له المهدي: لابدَّ أن تجيبَنِي إلى خصلةٍ من ثلاث: قال: وما هُنَّ يا أمير المؤمنين؟ قال: إما أن تَلِيَ القضاء، أو تُحدِّث وَلَدِيْ وتُعَلِّمه، أو تأكلَ أكلةً. ففكَّر مَلِيَّاً ثم قال مع نفسه: الأكلةُ أخفضُ على نفسي. وَطَلَبَ الأكل. فأُمِرَ الطبَّاخُ أن يصنعَ له ألواناً من المخ المعقودِ بالسُّكر الطَّبَرْزَد والعسل. فلما فَرغَ من طعامهِ قال القَيِّم: ليسَ يفلحُ الشيخ بعد هذه الأكلةِ أبداً. قال الفضل: فَحَدَّثهم والله شُرَيْكٌ بعد ذلك، وعَلَّمَ أولادهم، وَوُلِّيَ القضاءَ لهم.
هذا اليسير من التراث وأحداثه في شكلها السيئ، ربما له صور مماثلة في حاضرنا. وإذا كان الحال كذلك، فمن البُله أن نعيد أخطاءه.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3899 - الجمعة 10 مايو 2013م الموافق 29 جمادى الآخرة 1434هـ
كلام جدا مفيد وصحيح
شاعر وقف امام مللك من الملوك وقال فيه شعر اطال فيه لم يتخيله عقل بشر فنهمرت عليه العطايا من كل جانب وشاعر وقف اما صعلوك من الصعاليك وقال فيه بيت من الشعر فقط اسطر من الشعر فلم يراى الشمس لبقيه حياته لا ادرى مادا دخل ايران وما يجرى فى ايران الظلم والاستبداد فى العالم اجمع
شكرا لك
اشكرك جزيل الشكر ياسيدي علي مقالاتك التي تفيدنا وتحفزنا لكي نبحث ونتعلم المزيد عن المواضيع والأسماء التي تدكرها .
ويش صاير في ايران إنتخابات ومظاهرات وقمع وإنته ما تدري
اعود بالله من الجهل
لاأتوقع ان يرد احد عليك لأنك لست جاهلا فحسب بل انك تثير الشفقه وتحتاج لمن يدعو لك باالشفاء .
امتحان في الإعراب
أعرب الكلمة الثانية من الجملة التالية: إلاّ الحماقة أعيَت مَنْ يُداويها
البطانة الشريرة
الزعماء الذين لا يعتمدون على بطانة هم الأجدر في الحكم والأكثر نجاحا