كارثة تشرنوبل ليست الوحيدة في مسلسل الكوارث البيئية، لكنها الأكثر حضوراً في قائمة الكوارث الإنسانية في عالمنا المعاصر، حيث كانت محنة حقيقية تركت آثاراً بيئية شاملة ودائمة البقاء، وشكّلت خطراً حقيقياً على أمن وسلامة الإنسان، وتسببت في موت الكثيرين وحدوث الإعاقات والأمراض المزمنة والدائمة، إلى جانب حالات التفكك الأسري، والحالات النفسية في أوساط المشاركين في عمليات مكافحة التسرب الإشعاعي من محطة تشرنوبل النووية.
في السادس والعشرين من أبريل/ نيسان 1986 استيقظ سكان بلدة «تشرنوبل» الريفية على أصوات الانفجارات المدوية ولهب الحريق المتصاعد ونداءات رجال الميليشيات بترك المنازل والتوجه إلى الباصات المخصّصة لترحيلهم إلى مناطق أخرى غير معلومة لديهم، وعن هذه المحنة الانسانية حدثتني جارتنا لينا في مدينة كامينتس بدولسكي، غرب أوكرانيا، عندما كنّا نودع أمها إلى مثواها الأخير في أكتوبر/ تشرين الأول 1993، بعد أن ودّعنا والدها في سبتمبر/ أيلول 1992، حيث وافتهما المنية نتيجة الاشعاعات النووية.
حدثتنا لينا عن فصول تلك المأساة، وعن الرعب الذي دب في صفوف المواطنين بقولها: «لم نكن ندري بما حدث، تسلمنا التعليمات بالرحيل، كنت يومها في المدرسة وقائدة في الطلائع، فأخذت في تنظيم الأطفال، لأسوقهم إلى الباصات المخصصة لنقلهم إلى مناطق بعيدة عن منطقة الحادث. لقد ترك الناس بيوتهم، ولم يحملوا أبسط الأشياء، تركوا اللعب وغيرها من الممتلكات الثمينة، تركنا الأرض الجميلة بخضرتها، تركنا أشجار التفاح والكرز والمشمش تركنا بلدتنا الجميلة المكسوة بالخضرة».
تشرنوبل بلدة ريفية صغيرة وادعة غارقة في الخضرة، لقد زرتها قبل عام من الكارثة ورأيت جمالها الخلاب وأشجار الكرز والتفاح المليئة بالثمار، والتقيت الكثير من الناس من أهالي كييف والمدن الأخرى الذين كانوا يتواجدون في فترة الصيف مع عائلاتهم للراحة والاستجمام، فيستأجرون غرفاً في البيوت الخشبية ذات الطابق الواحد، ويتيهون في غابات الأشجار لجمع الفطر ويسترخون تحت أشعة الشمس على شواطئ بحر كييف الرملية النظيفة ويصطادون السمك، وقد دمرت تلك الكارثة ذلك الوئام البشري مع الطبيعة.
سيناريو الأحداث التي رافقت وقوع ذلك الحدث منذ فصوله الأولى يجسد واقع تلك الحقائق، فعندما وقع الانفجار كان وقتها الجو ربيعياً، وفرقة الدفاع المدني في محطة تشرنوبل النووية تغط في سبات عميق مع نسمات الربيع العليلة، وظلام الليل لايزال يخيّم على المدينة، وعواء الكلاب الضالة يمزّق سكون الليل، ولاتزال الديكة تغط في سباتها العميق عندما صاح تلفون الخط الساخن في غرفة قيادة الدفاع المدني، معلناً حالة الطوارئ واستنفرت فرقة الدفاع المدني المكونة من 36 جندياً وضابطاً، وجميعهم في مقتبل العمر لم يتجاوز أكبرهم السادسة والثلاثين عاماً.
وعندما وصلت الفرقة إلى المفاعل الذي لايزال يتفجر وتتطاير منه قطع الاسمنت المسلح، لم يكونوا على علم بالذي يجري، ولم يطرق بالهم أنهم في الطريق إلى الموت، وكان الشباب البسطاء طاقم الدفاع المدني الذين جاءوا من المزارع الجماعية «الكلخوزات» في الأرياف الأوكرانية قد تعاملوا مع الحادث ببساطة الطفل البريء، ويقال ان أحدهم كان يمسك بقطعة الاسمنت المتطايرة من المفاعل وهو يصرخ لصديقه ويقول: «فلوديا... أمسك هذه القطعة، إنها لاتزال ساخنة»، وهو يضحك دون أن يدري أنه يحمل أداة الموت في يده، ولم ينج أحدٌ من هؤلاء الشباب.
كان الوضع في ذلك اليوم المشؤوم ليس طبيعياً، وكنا نشعر بأن هناك أمراً غير عادي، ولم يكن الناس يعرفون ماذا يجري. كثيرون كانوا يعتقدون أن هناك انقلاباً ما قد وقع، أطاح بميخائيل جورباتشوف، وذلك أمر قابل للوقوع في تلك المرحلة بالذات، بيد أن الناس لم يدر في خلدهم أن المفاعل الرابع في محطة تشرنوبل النووية قد انفجر وبات يهدّد حياتهم ومستقبل الأجيال المقبلة، كما أنه لم يدر في خلد فوج الشباب خريجي المعهد العالي للتكنولوجيا في كييف الذي توجّه بكل عزيمة في صباح ذلك اليوم للعمل في محطة تشرنوبل، بأنهم نجوا بجلدهم من موت محقق، وقد عادوا من حيث أتوا وعلامات التعجب تعلو وجوههم لعدم مقدرتهم فهم طبيعة ما شاهدوه وفك رموز المعادلة الصعبة لما رأته أعينهم من علامات حالة الطوارئ.
إقرأ أيضا لـ "شبر إبراهيم الوداعي"العدد 3898 - الخميس 09 مايو 2013م الموافق 28 جمادى الآخرة 1434هـ
جميل
مقال جميل ، اول مرة اعرف هالحادثة