الموقف العربي الأخير الذي يعيد مجدداً صياغة المبادرة العربية، التي اعتبرت في حينها حداً أدنى، وآخر تنازل عربي، أمام سياسة الغطرسة الصهيونية، يعيد إلى الذاكرة، مقولة أثينية، خلاصتها «أن النصر إذا كان مستحيلاً ينبغي احتقاره». وقد وجدت هذه المقولة قبولاً بعد سقوط مدينة أثينا، ومعها سقوط الفلسفة اليونانية التي أسهمت في رقي الفكر الإنساني وتطوره.
سادت في تلك المرحلة المدارس الرواقية والأبيقورية، والحث على القبول بالأمر الواقع، وخلالها سوقت مقولات الاستسلام، والاستعاضة عن الطموح بالخضوع للذة، وسادت مقولات مثل «إذا كان ما لديك لا يكفيك، فلن تصبح سعيداً حتى لو ملكت العالم بأسره».
أثار التنازل العربي الجديد الذي يقترح تبادل الأراضي، بين الفلسطينيين والصهاينة، ليستعيض الفلسطينيون عن الأراضي التي احتلت من قبل الإسرائيليين، في حرب حزيران 1967، بأراضٍ أخرى يختارها الصهاينة، ربما من صحراء النقب، أو من مناطق أخرى، تساؤلات وتداعيات في المعنى كثيرة.
فكلمة الحد الأدنى ذاتها، أصبحت عديمة المعنى لفرط استخدامها، ولفرط تزامن هذا الاستخدام بتقديم المزيد من التنازلات لمصلحة المشروع الصهيوني. ومن باب التذكير فقط، ومن غير الرغبة في استحضار التاريخ، كان القبول بتقسيم فلسطين بين سكانها الأصليين واللصوص الوافدين، من كل أصقاع الأرض، هو أول حد أدنى، وكان في حينه موضوعاً خلافياً بين العرب.
وفي النصف الثاني من السبعينيات، نشط مدير مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في لندن، سعيد حمامي في نشر مقالات باللغة الإنجليزية في مجلة «نيوزويك»، قالت بحد أدنى آخر. تحدّث حمامي في مقالاته عن تاريخ القضية الفلسطينية، وعن معاناة أهله، وأوضح أنه لم يسبق في التاريخ، أن طُلب من ضحيةٍ أن يعتذر لقاتله، إلا في حالة الصراع العربي- الصهيوني.
وقال إن التوازن الدولي والإقليمي لا يسمح للفلسطينيين بالمطالبة بكامل أرضهم. وإنه لذلك، يطالب المجتمع الدولي والعرب جميعاً بقبول قيام دولة فلسطينية، على الأراضي التي احتلها الإسرائيليون في حرب حزيران، وأن يتحقق السلام بين الفلسطينيين واليهود. وفي معرض تبريره لدعوته، أشار إلى أن قيام دولة فلسطينية، سيفتح الباب، للمطالبة العربية، بتطبيق جميع القرارات الصادرة عن الأمم المتحدة، بما فيها قرار التقسيم، وأن ذلك سوف يصب في مصلحة الفلسطينيين، وسيسهم في الدفع بحق العودة إلى الأمام. وقال حمامي إن ما قدّمه من اقتراحات، هي في النهاية محاولة للوصول إلى حل ظالم وغير عادل بحق العرب، ولكنه الوحيد الممكن وربما المتاح، وإن على العالم أجمع أن يدرك أن ذلك، هو آخر ما يمكن للفلسطينيين أن يقدّموه من تنازل، عن حقوقهم.
وتم التراجع عن هذا الحد الأدنى، إلى حد أدنى آخر، في مسلسل لا ينتهي، كان آخره، مشروع تبادل الأرض. وهو مشروعٌ إن كتب له أن يدخل من بوابات التفاوض، فإنه يحمل نذر التنازل عن القدس الشريف، ومدينة الخليل. لتصبح القضية ليست فقط تنازلاً عن الأرض، بل تنازلاً أقسى وأمر. إنها تضحية بالذاكرة التاريخية، وبالحقائق الزاهية التي صنعت تاريخ العرب وأمجادهم. وهي في هذه الحالة، تعني التنازل عن الماضي والتضحية بالحاضر والمستقبل.
والأخطر من كل ذلك، أنها تهيئ للتضحية بفلسطين، كل فلسطين. لأن الأمر لم يعد متعلقاً باستعادة أرض بعينها، ولكنها استبدال أرضٍ بأرض. ومادام القانون كله خاضعاً لتوازنات القوة، فما الذي يمنع أن يتم هذا الاستبدال خارج فلسطين، فيتحقق في مكان آخر، لا يكون في الأصل من الحصة التي اغتصبها الصهاينة.
وعلى الضفة الأخرى، يقف الموقف الصهيوني، قوياً ومتغطرساً وصلباً. وفي هذا السياق، لسنا بحاجةٍ إلى كبير عناء لندلل على عنصريته. فالأصل في العقيدة الصهيونية، هو عنصريتها، وما عداه من مؤسسات تحمل طابع الدولة المدنية الحديثة، هي رتوش تجميلية، لا تسمن ولا تغني، ولا تغيّر من واقع الأمر شيئاً.
فمنذ البدء، استند البرنامج الصهيوني، لحيازة فلسطين، إلى نفي الآخر. فالفلسطيني في العقيدة الصهيونية، إما غير موجود أصلاً، وإما أنه أقل إنسانية، وأنه في أحسن حالاته قربان للحضارة. والإجهاز عليه، ومصادرة أرضه وممتلكاته، هو تحقيق لنبوءة الأرض الموعودة. وهو من جهة أخرى، تطبيق لمقولة البقاء للأفضل، حيث الأرض لمن يزرعها، أما الآخرون فمصيرهم التشريد والنفي، والقتل إن اقتضى الأمر. وكما قال أحد زعماء الصهاينة في هذا السياق: «لا يوجد فلسطيني جيد.. الفلسطيني الجيد هو الفلسطيني الذي فقد حياته». هذه المنطلقات الصهيونية، ليست مواقف عابرة، فرضها تدشين المشروع الصهيوني على أرض السلام، ولكنها شيء ماثل أبداً، في صلب عقيدة المغتصب.
وبنيامين نتنياهو، اليمينى المتطرف، ورئيس حكومة الكيان الغاصب والرافض لحق الفلسطينيين في تقرير المصير، هو الأجدر، في التعبير عن عنصرية كيانه. ولذلك، يأتي تكريمه للحاخام يوسف الشريف الذي دعا إلى قتل غير اليهود، «الأغيار»، في اتجاه منطقي وموضوعي.
وللأسف فإنه في الوقت الذي يطرح بعض العرب، مشروع تبادل الأراضي، «كحد أدنى» و»آخر التنازلات»، في القائمة المذلة، نشرت صحيفة «هآرتس» في 23 إبريل/ نيسان الماضي، مقالاً لسافي راخلفسكي، ناقش فيه تأبين رئيس الحكومة، نتنياهو للحاخام العنصري، الذي طالب طوال حياته بقتل الفلسطينيين، ونفيهم عن أرضهم. وقد وضع سلوك نتنياهو هذا، ووضعه العلم الصهيوني، فوق قبر الحاخام، حكومة الكيان الغاصب، في مصاف الشريك في جريمة المناداة بسحق «الأغيار».
لقد وصف الكاتب الإسرائيلي راخلفسكي، تصرف نتنياهو بالمثير للقشعريرة، وبأنه «نقل إسرائيل من دولة إلى شركة عنصرية». وتصريحاته في هذا الشأن مستفزة ومقرفة، حيث وصف الحاخام العنصري، باليهودي الطاهر، ووجه تحيته لعظيم من عظماء التوراة، وفقيه في الشريعة اليهودية ومفتٍ كبير. وأنه حاخام اعتقل لأنه وقف «خلف نظرية الملك، وشريعة قتل الأغيار».
أثار الحاخام يعقوب يوسف الشريف، أثناء حياته غضب جميع قوى السلم في العالم، وكانت فتاويه العنصرية، موجّهةً ضد العرب، وقد واصل دعواته العنصرية حتى آخر يوم في حياته. وكان بالإمكان التعلل بأن مواقفه العنصرية هذه، تخصه وحده، ولا تتحمل وزرها حكومة العدو، رغم أن ذلك منافٍ لأبسط الأمور. فسلوك الحكومات الصهيونية المتعاقبة، ممثلةً في الزحف المستمر على ممتلكات الفلسطينيين، وبناء المستوطنات فوقها، وهدم البيوت وإقامة المعابر والجدران العازلة، كلها تصب في خدمة تنظير هذا الحاخام، وتنفذ ما جاء في فتاويه، وهي في النهاية تتجانس مع اعتباره مفتياً كبيراً، كما صرح بذلك نتنياهو.
أما آن لمسلسل تقديم التنازلات أن ينتهي، وأن تقفل إلى الأبد أكذوبة «الحد الأدنى» ليستقيم ميزان العدل، في مواجهة الحركة الصهيونية؟ فليس أقسى من الهزيمة سوى تكيف المهزومين معها، والقبول بها كمسلمة نهائية، وحقيقة مطلقة، فموازين القوى الحالية، ليست شيئاً راسخاً، وأن يبقى الحق معلقاً، يتم التمسك به، وينتظر فرصته، خيرٌ من التفريط بالتاريخ والوجود. وتلك حقائق سجلتها المدونات التاريخية، فهل حان موعد استيعاب دروسها؟
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "العدد 3898 - الخميس 09 مايو 2013م الموافق 28 جمادى الآخرة 1434هـ
تذكرني فقرات وردت في مقالك بوضع مشابه في مكان ما
فمنذ البدء، استند البرنامج الصهيوني، لحيازة فلسطين، إلى: نفي الآخر -الإجهاز عليه، ومصادرة أرضه وممتلكاته - تكريم اصحاب الفتاوي العنصرية ضد العرب - الزحف الاستيطاني على المناطق التي يسكنها العرب -
لو فقط تم تسخير 1%من المال المخصص لسوريا لرايت الجميع يركض وراء العرب لطلب الصلح
عجيب امر امة لاتدير قرارها فقط للتذكير كم دفع من مال لتدمير سوريا وهل لوتم ذاك لقصية فلسطين اين كنا سنصل واقول كتب علينا الذل والمهانة والسبب هو عدم اشراك الشعوب العرببة في ادارة شوءن بلادهاى