قليلون هم الذين يكتبون، وكثيرون هم الذين يقرأون. هذه المعادلة، كانت ولازالت هي الحاكمة على مختلف قطاعات المعرفة. الفارق، أنها في السابق كانت أكثر رسوخاً، واليوم بدَت أقلَّ بكثيرٍ مما مضى. وربما يعود السبب إلى المتغيرات التي حصلت في أشكال وأحجام مساحات الكتابة.
في السابق، مَنْ أرادَ أن يكتب رأياً، كان الحال يقتضي منه أن يكون مستحصلاً على متسَعٍ من العلم، وقدرة على البيان، ووقت يخلد فيه مع عقله وشعوره. وبعد كل هذا كان عليه أن يُهيِّئ بطن أو ظهر صحيفة ينشره عليها، هذا إن قَبِلَت هي ما كَتَبَه أو تعذّرت بركاكته أو بمقص الرقابة.
اليوم، ومع ظهور البريد الالكتروني ومواقع التواصل الاجتماعي بشتى أشكالها، بدا أن تلك المحاذير لم تعد قائمةً بذات الشكل. مَنْ يُرِدْ أن يكتب رأياً يمكنه أن يفعل وبوسائل عديدة. البريد الالكتروني، المدوَّنات الشخصية، فيس بوك، تويتر، انستغرام، واتس آب، وخلافها من الوسائل.
كما أن هذا الرأي، يمكنه أن ينطلق بسرعة ضوئية، وفي بحر دقائق معدودة، خصوصاً أن الآلية لجعله كذلك، لا تحتاج إلى غرفة هادئة، ولا لسطح مكتب وكرسي يجلس عليه، بل يكفي أن يكون لديك هاتف ذكي بحجم الكف، يضمُّ كل تلك التسهيلات والبرامج المرتبطة بملايين البشر.
بعضهم اليوم بات يكتب رأيه وتعقيبه قبل أن ينام بدقائق. وآخرون أصبحوا يكتبون وهم على مائدة الطعام. وبعضهم يكتب وهو يهمُّ بصعود الطائرة. بل إن ورود الفكرة والتعبير عن ردة الفعل، لم يعد يمنع ظهورها للعلن أي مانع يذكر، حتى ولو كان صاحبها على فراش الموت.
وقد وجدتُ أن الرئيس الفنزويلي الراحل هيوغو تشافيز قد كَتَبَ آخر تغريدة له في تويتر (والتي عبَّر فيها عن ثقته بأطبائه) قبل وفاته ودخوله في غيبوبة أخيرة. وقد بلغ عدد الذين قرأوها وقاموا بعمل ريتويت لها واحداً وأربعين ألفاً وثمانمئة وأربعة وستين شخصاً. وكان متابعو حسابه قد وصلوا حينها إلى أكثر من أربعة ملايين وربع المليون متابع، قبل أن يصبح الرجل تحت نظام الموت.
في كل الأحوال، فإن هذه الخارطة الجديدة من وسائل التعبير النشطة والمتوفرة، قد جعلت من معادلة الكتابة/ القراءة تتبدل بشكل كبير. فالعديد من الناس، بات يكتب، ويُعبِّر عن رأيه، حتى ولو كانت اللغة لديه ركيكة، والبيان ضعيفاً. يكفي أنهم يكتبون، ويُعقبون، ويجترحون أفكاراً. هذا الأمر، جَعَلَ من المعلومة/الاتجاه/الرأي العام ينشط أكثر، ويتعامل مع عالم افتراضي فوَّار.
لكن، وعلى هامش هذا الحديث المُشَجِّع، حول انهمار المعلومة وتشكُّل الرأي، تظهر لدينا عدد من الإشكاليات، تتعلق بعدم تناسب هذا التبدُّل في وسائل التعبير مع المنتَج المكتوب. وفي معنى أول لما ذكرته، نرى أن كثيرين، باتوا يكتبون كيفما اتفق، وبلغة شوارعيَّة، لا تنقصها المفردات، بل ينقصها الأدب والاحترام، والحد الأدنى من اللياقة. وهو باعتقادي أحد أسوأ مشاهد هذا التطور.
معنى آخر يمكن الإشارة إليه ضمن تلك الإشكاليات، وهو تعوُّد الكثيرين على «الكتابة الكسولة». بمعنى، أنهم يريدون أن يكتبوا سريعاً وبلا مقدمة، وبلا زاوية، ولا بحث، وبلا دليل، وبلا خلاصة فضلاً عن غياب المفردة. هذا الأمر هو مُخْرَج سلبي لحالة التطور هذه، ولا يتناسب مع نعمة الفضاء الافتراضي المفتوح والموجود، والذي بات يُعِيننا على تجويد ما نكتب ونعبِّر به بشكل سليم. تقنيات بإمكانها أن تكون رافداً عظيماً لآرائنا وأفكارنا لكننا لا نفعل كما يجب.
معنى ثالث يمكن الإشارة إليه أيضاً، وهو اكتفاء الكثيرين في مواقع التواصل الاجتماعي، على متابعة ما يُكتَب، وفي أفضل الأحوال، أن يقوموا بعمل «ريتويت» في تويتر، و«لايك» في الفيس بوك أو الانستغرام وخلافه، دون أن يُكلِّفوا أنفسهم أن يخطوا بضعَ كلمات إن وجدوا تغايراً مع المكتوب. هذا «التفكير الكسول» من شأنه أن يجعل عقولنا تستكين لثقافة التعايش السلبي مع ما يُكتَب.
فالأفكار، ليست نهاية الجدار، بل هي بدايةٌ لأفكار قادمة. وهذا القادم من الأفكار، لا يمكنه أن يأتي إلاَّ من خلال الرَّد، وردّ الرّد. إنه يتشكل عبر الإضافة، والتشذيب، وتحريك القناعات الخاصة، لإنتاج أفضل الأفكار. وقد علَّمنا الأوّلون الجادُّون، أن أفكارهم والردود المتوالية عليها، قد أصبحت أسفاراً ضخمة، احتوت على أفكار جيدة ورائدة، لم تكن نسخةً كربونيةً لا من الفكرة الأولى ولا من الفكرة الثانية، بل هي هَجيْن من الفكرتيْن، وكانت مدعاةً لتغيير الكثيرين لقناعاتهم.
معنى رابع يمكن الإشارة إليه، والذي باعتقادي يعتبر أهم المعاني المزبورة، وهو المتعلق (ومع شديد الأسف) بالمساهمة بشكل غير مباشر في «عدم شياع الأفكار للنفع العام». وما أعنيه بذلك هو عدم قدرتنا على إعادة إنتاج المقروء بشكل شخصي، إلى مقروء جماعي، وجعله متاحاً للجميع.
فلو أن كلَّ فردٍ اطلع على كتاب أو تقرير ما، وأعاد نشر قراءته له ولو باختصار في كافة مواقع التواصل، أو على الأقل، دَلَّ عليه (إن كان هناك محذور للملكية الفكرية) لكان الحال أفضل. فليس الجميع قادراً على النبش في بطون الكتب، أو الوصول إليها خصوصاً إذا كانت بلغات أجنبية أخرى.
إن عدم الانتفاع العام، لا يُفقرنا نحن فقط القراء، بل إنه يظلم أصحاب الكتابات ذاتها، كونه يُقلل من فرص الآخرين في الاطلاع على ما كتبوه. وقد علَّمنا التاريخ، كيف أن هناك الكثير من العلماء والمفكرين ممَنْ لم يبروزا ولا نتاجاتهم، بسبب عدم نَيْلِهِم وأفكارهم فرصة الظهور.
جماع القول، أن وجود مثل هذه الوسائل الحديثة، لهو نعمةٌ دَفَعَت بمستوى الرأي والمعرفة إلى الأمام، لكن الأمر لا يعني أن ذلك خالٍ من المحاذير التي ذكرناها سلفاً، والتي تقتضي منا النظر فيها بعناية.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3897 - الأربعاء 08 مايو 2013م الموافق 27 جمادى الآخرة 1434هـ
نعم
اشد على يدك يجب نشر الثقافة التي نكتسبها من القرائه بالحديث عنها وتشجيع العامة على الاطلاع من خلال حديثنا الحكيم والمفيد عن ما اطلعت عليه عقولنا
تبادل الرسائل ليس كما الكتابه وكتابة العمود أو المقال بعد التحقق والتأكد
لا توجد حرية عند ما يكون إتداء على حرية الآخر. فحريتي تنتهي عند ما تبدأ حرية الآخر. كما أن القول بالرأي والرأي الآخر حجمه أفلاطون بقوله أن متى ما كان لديك رأي فهو رأيك. وبالرأي لا يقاس قالها الاما الصادق (ع). قد يريد الانسان التعبير لكنه يصدم بحقيقه أن ما في نفسه قد لا يكون حقيقة مطلقة أو معلومة صحيحة متحقق منها. فقد يفجر الانسان ما بداخله من أفكار تجول في وجدانه وليس لديه الألمام الكافي أو الادراك بأن قوله يؤدي ويعرض الآخرين للأذي وليس إلا. فهل يجوز أن يكتب أو يقول الانسان رأيه؟
نعم
عليه أن يقول رأيه .. شجعوهم
فلفلة سبايسي
أحدهم يسأل اليوم من جديد: «إلى أين تسير مصر؟»
-----------------------------------------
ونقول له : إلى حيث تريد لها أنظمة الاستبداد ... ونحن نسأل بدورنا: هل سيسمح بذلك شعب مصر الحر؟
بارك الله فيك
مقال جميل ولغة جزلة وأفكار متنورة
احسنت يا أخ محمد على كل هذا العطاء الذي نتابعه وننهل منه