في غفلة عن مراقبتي الصارمة والمعهودة، تابعَتْ عينا ابني الصغير، بمنتهى الدهشة، أجزاء من أخبارنا العربية المألوفة؛ حيث كانت إحدى القنوات تعرض مشاهد الموتى والجثث وهي تدفن فرادى وجماعات، والبنيان الخالد الذي شادته يد الزمان وهو يهوي بفعل المدافع وراجمات الصواريخ والتفجيرات الانتحارية وماشابهها من أعمال العنف والعنف المضادّ!

نعم في غفلة عن عين الرقيب العتيد، الذي هو أنا في بيتي وأمام تلفازي، شاهد ابني ما شاهد، وبكى دموعاً دون صوت وهو يقول لماذا يموت هؤلاء؟ لماذا تهدم تلك البيوت والجسور والآثار؟ أين سيعيش أولئك الأطفال؟ لماذا تغتال الطفولة بهذا الدم البارد؟

وفي غفلة من وعيي قلت له: «يا بني، هذه الحرب في سورية جملة اعتراضية سريعاً ما ستزول؛ ففي العالم العربي الكبير من العقلاء والحكماء الكثير والكثير ممّن يوقف هذا الدمار في لحظة، بل قبل أن يرتدّ إليك طرفك! إنما هم فقط يتحيّنون الفرصة المناسبة والوقت المناسب حتى لا يأخذوا القرار بتعجّل فهم مؤمنون بأن في العجلة الندامة وفي التأنّي السلامة حتى وإن ازداد عدد الموتى وتضاعفت أعداد الثكالى واليتامى.

يا ولدي، لا تحزن! كلها أيام ويتحرّك أولئك العقلاء ويجتمعون، تحت سقف البيت العربي، رفيع العماد ذي المجد المهاب، والمعروف باسم جامعة الدول العربية، نعم قريباً سيجمعون الفرقاء ويؤلفون بين قلوبهم ويتحول أولئك المتقاتلون إلى إخوان صفاء وخلان وفاء، وتضع الحرب أوزارها ويتوقف نزيف الدماء وكأنّ شيئا لم يكن! ألم أقل لك أنها مجرد جملة اعتراضية؟!

لا، لا يا ولدي، لا تبتئس! فهذه الحرب استطراد قصير في قصة تاريخ السلام والأمن والتعايش والوئام والإخاء والتراحم والنقاء والتوافق والتعاون والتساند والتلاحم التاريخي بين مكونات أي مجتمع عربيّ.

يا ولدي، لا تحزن إنّ الله معنا؛ ففي عالمنا العربيّ المسلم من المُفتين والفقهاء والمراجع والدعاة والمعممين والقضاة مَن يُفتون بتحريم القتال بين المسلمين فتذعن لفتواهم قلوب كلّ من الغالب والمغلوب، بل لهم من القوة المعنوية والكرامات الربانيّة ما يجعل الرصاصة تتوقف في نصف طريقها وقد انطلقت من يد الأخ المسلم إلى مرماها من صدر أخيه المسلم بمجرد صدور فتواهم التي تحرم اقتتالنا فيما بيننا.»

لاحظت أنّ أسارير وجه ابني الصغير قد تهلّلت وكأنّ كربته قد انفرجت، فاسترسلت في غفلة أخرى من وعيي لأقول: «يا صغيري، لا تيأس! ففي عالمنا العربيّ من الإعلاميين مَنْ إذا نطقوا صدقوا، وإذا نقلوا التزموا الحياد والموضوعيّة، وإذا حلّلوا أو علّقوا، سعوا إلى لمّ الشمل ونزع فتيل الحرب، وإذا كتبوا أو نقدوا، فإنما لرأب الصدع والمساهمة بالرأي الحسن في الخروج من عنق الزجاجة، ومن إذا صُنّفوا بين نظرائهم في العالم، احتلوا المراتب العُلى... ولا فخر!

يا بنيّ، لا تنزعج؛ طالما في عالمنا العربي من المثقفين والأدباء والمفكرين والشعراء العدد العديد ممّن جعلوا قضايا المجموعة العربية ومشاكلها الأزلية بؤرة اهتماماتهم وتخلّصوا نهائيّا من ذاتيّاتهم وهم يكتبون الروايات ويحللون الأفكار ويحبرون روائع الأشعار».

واسترسلت واسترسلت في غفلة تاريخية عن وعيي التاريخيّ.

وفجأةً ظهر في شريط الأخبار المكتوبة خبر عاجل مفاده أنّ القوات الصهيونية دخلت على الخط، وهدّدت فأخافت، وضربت فأصابت. فاستيقظت في داخلي بعض بقايا الوعي حتى عدت إلى رشدي، وكدت أفسد على ابني الصغير سروره بما سمع منّي عن تاريخ واقعنا العربي وحاضره المشرق، وأعلنت له في قمةٍ من وعيي: «لا تحزن يا ولدي فالحرب في سورية جملة اعتراضية، سرعان ما ستزول فأسبابها عَرَضيّة وآثارها وقتيّة...

يا ولدي لا تحزن فالصبر علينا هو المكتوب يا ولدي، الصبر علينا هو المكتوب، إنّما هي أيام معدودة ويظهر فينا، كما في كل مئة عام، وبعد أن تتقاطع في لحمنا خناجر العروبة

ويشتبك الإسلام بالإسلام، قائدٌ فذٌّ يلملم الأشلاء ويضمد الجراح، قائد هُمام يقلب هزائمنا الكبرى إلى انتصار»!