لم يحصد الفيلم الكردي «بيكاس» الجوائز التي أمل معجبوه أن ينالها إثر مشاركته في عدد من المهرجانات السينمائية. على الأقل، لم يحدث ذلك في المهرجانات التي حضرتها وكان «بيكاس» حاضراً فيها وآخرها مهرجان الخليج السينمائي الذي نظم في شهر أبريل/ نيسان 2013 في دبي.
ربما لم يرقَ الفيلم لذائقة لجان تحكيم تلك المهرجانات، وأتحدث هنا عن مهرجاني دبي السينمائي الدولي ومهرجان الخليج السينمائي. المهرجان الأول الذي افتتح به الفيلم برنامج الأفلام العربية الذي يحتضنه المهرجان، منحه جائزة دبي إكسبو 2020 وهي جائزة الجمهور الذي اعتبر «بيكاس» أفضل فيلم من بين كل الأفلام التي شاهدها في فترة انعقاد المهرجان في ديسمبر/ كانون الأول 2012.
مهرجان الخليج كان أكثر كرماً مع الفيلم إذ اعتبره ثاني أفضل فيلم روائي طويل عرض في المهرجان، ومنح مخرجه ومؤلفه كرزان قادر جائزة لجنة التحكيم الخاصة لأفضل إخراج، كما منح شهادة تقدير للطفلين اللذين قاما بدور البطولة فيه، وهما زمند طه وسروار فاضل.
في المقابل، حاز الفيلم إعجاب مشاهديه في المهرجانين، ومن جهة أخرى تمكن من تحقيق سبق في بلده بتحقيقه إيرادات عالية وصلت إلى 200 مليون دينار عراقي في صالات العرض العراقية وتحديداً في مدينة أربيل وفي السليمانية حيث عرضه الأول.
هذا التواصل الجماهيري مع الفيلم ليس مستغرباً نظراً إلى صدقه في نقل واقع الأكراد ومعاناتهم خصوصاً أيام حكم النظام العراقي السابق.
اسم الفيلم قد يوحي لمن يعرف معنى الكلمة بقصته، فبيكاس هي كلمة كردية تطلق على الأشخاص الذين لا يحملون أي جذور عائلية، والذين تزايدت أعدادهم في فترة الحرب في العراق. والفيلم يحكي قصة الطفلين اليتيمين «دانا» و»زانا» اللذين فقدا والديهما ابان حكم النظام العراقي السابق، واللذين يعتاشان على مسح الأحذية نهاراً ويتخذان من سطوح المنازل سريراً لهما.
يواجه الصغيران الكثير من الصعوبات على مستوى يومي ولا يجدان من يمسح على رأسيهما سوى رجل عجوز سرعان ما يخطفه الموت ليفقدا بذلك كل معنى للحب في حياتهما.
يحلمان بتغيير ظروف حياتهما البائسة، فيجدان ذلك ممكناً على يد بطل خارق. بطلهما هو سوبرمان اللذان يشاهدانه في فيلم تعرضه دار سينما صغيرة في قرية، لا يملكان بالطبع أجرة دخول الفيلم فيتلصصان المشاهدة من ثقب في جدار السينما.
منقذهما من العناء والمعاناة هو سوبرمان إذن، لكن هذا البطل الذي يعيش في أميركا لا يمكن له أن يحضر لإنقاذهما إلا أن يسافرا لإحضاره بنفسيهما ليحل جميع مشاكلهما ويلقن كل من آذاهما درسا.
هو السفر إلى أميركا إذن، والوسيلة ليست سوى حمار أطلقا عليه اسم مايكل جاكسون قايضا ثمنه بقلادة تحمل صورة والدتهما الراحلة، لم تكن أول ما باعاه وتنازلا عنه من جذورهما.
لا يصل الصغيران إلى أميركا بكل تأكيد، لكنهما ينطلقان في رحلة تتخللها شتى أنواع الصعوبات والمغامرات. وبدلا من لقاء منقذهما الأميركي يتحول الطفلان إلى بطللين يصارعان واقعهما المأساوي وينتصران عليه.
مخرج الفيلم الكردي كرزان قادر كان تحدث خلال عرض فيلمه في مهرجاني دبي والخليج السينمائيين، موضحاً أن القصة التي كتبها بنفسه وأخرجها هي في واقع الأمر مبنية على واقع عاشه في طفولته. بنى القصة على ذكريات طفولته في كردستان العراق، لكنه أجرى بعض التغييرات الطفيفة. تحدث عن ضرورة أن يكون لكل طفل بطل خارق، كان كذلك في طفولته، نقل أحلامه وتصوراته تلك بكل أمانة في فيلمه، لكنه فقط استبدل رامبو بطله المخلص للأكراد والقادر على تحريرهم، بسوبرمان، الذي يقول إنه أكثر إقناعاً من رامبو في قدرته على تخليص البشر من معاناتهم، لعدم لجوئه إلى العنف كما يفعل رامبو.
سوبرمان وأميركا هما المرادفان للحياة السعيدة في نظر كرزان طفلاً، إذ يقول: «كان الجميع يتحدث عن أميركا فتصورتها في ذهني مكاناً مذهلاً... الناس فيه سعداء لا تطولهم أي حروب ولا يعانون من أي أمر». لكن كرزان الذي حلم طفلاً بالسفر إلى أميركا والعيش فيها وربما لقاء سوبرمان والعودة به إلى كردستان، لم يحقق هذا الأمر، تماماً كبطلي فيلمه. يقول «لم أذهب إلى أميركا لكنني وصلت السويد وأنا اليوم مخرج أفلام أفعل ما أحبه».
كلماته تحمل كثيراً من الأمل، وتأتي متسقة مع رسالة فيلمه التي تقول أيّاً تكن وأيّاً تكن ظروفك، كن جريئاً بما يكفي لكي تحلم. ثم صارع من أجل تحقيق أحلامك. قد لا تحقق تلك الأحلام لكنك حتماً ستحقق سواها، وستغير حياتك من دون شك. لم يكن أمراً منطقيّاً ولا معقولاً أن يصل الصغيران إلى اميركا على ظهر حمار. سوبرمان لم يكن واقعيّاً، وقدراته الخارقة ليست حقيقية، وكرزان يقول: «أردت أن أقدم قصة خيالية، لدي شقيقان يحلمان ويصارعان من أجل تحقيق حلمهما، يفشلان لكنهما يكتشفان أموراً أخرى».
ولأن كرزان أراد فيلماً يشجع على الحلم، فقد وضع له نهاية سعيدة متفائلة. الصغيران لم يصلا إلى أميركا لكنهما اكتشفا أهمية وجود أحدهما في حياة الآخر، عاشا لذة المغامرة، التقيا بأشخاص طيبين وآخرين على العكس. كل ذلك علمهما معنى الحياة، وكل ذلك أخذهما خارج القرية الصغيرة، لواقع ربما يكون أفضل. ترك كرزان نهاية فيلمه مفتوحة، لم يرجع الصغيرين إلى القرية وفي الواقع غير نهاية فيلمه ليجعله أكثر تفاؤلا وقدرة على حفز الأحلام، يقول: «كنت قد قررت أن أجعل أحد الصبيين يموت جراء انفجار لغم، لكن أحد أستاذتي اقترح نهاية أكثر تفاؤلا. فعلت ذلك فجاءت النتيجة مذهلة، لفيلمي أولاً، ولي ثانياً. لقد جعلني هذا الأمر أتغلب على كثير من الغضب بداخلي».
الغضب الذي عانى منه كرزان طويلاً لم تنجح سنوات الغربة والحياة في السويد في تخليصه منه، جاء لما عاناه في طفولته من بشائع الحرب وقسوتها. حين تحدث عن الفيلم وعن كونه مبنيّاً على ذكريات طفولته. اضاف ضاحكاً أنه كان أحد الطفلين اللذين ظهرا في الفيلم، وقال إنه الصغير الذي يتلقى الصفعات دوماً».
يقول: «رأيت الكثير من العنف خلال الحرب. عانيت فقد الكثير من الأقارب والأصدقاء. وأنا هنا أروي قصتي فقط وقصة هؤلاء، وأريد أن أكون صادقاً بقدر الإمكان. كتبت هذه القصة مما شاهدته في طفولتي. لا أريد أن أغضب أي طرف لكن هذا ما حدث تماماً».
لذلك يرفض كرزان أن يتهم هو أو فيلمه بالإساءة لأي طرف، يرفض حتى وصف فيلمه بالسياسي. البعض اتهمه بالعنصرية وبتقديم صورة سيئة عن العرب بسبب مشهد ظهر فيه أصغر الطفلين وهو يستجدي المساعدة لشقيقة الذي يقف فوق لغم أرضي، من سكان قرية عراقية ليواجه بقسوة من البعض ولا مبالاة من البعض الآخر. كرزان يكرر أنه ينقل ما شاهده إبان الحرب، ويضيف أن الأنانية والقسوة التي ووجه بهما الطفل هي أمور لم تحدث في كردستان أو العراق وحسب، لكنها تحدث في جميع أنحاء العالم. حين يحتاج الناس إلى بعضهم، لا يجدون من يقف بجانبهم». ولمزيد من المصداقية في نقل ذكرياته تلك، اختار كرزان طفلين كرديين لم يسبق لهما أن شاهدا كاميرا، لذلك امتلأ فيلمه بكثير من العفوية والصدق. يقول إنه وجد صعوبة بالغة في اختيارهما «لم أكن أبحث عن صبيين يمثلان جيداً أو يتذكران الحوارات لكنني كنت أبحث عن نفسي وعن شقيقي بين المتقدمين، كنت أبحث عن طفولتنا. أردت أن أجعل الفيلم قريباً من طفولتي بقدر الإمكان».
الطفلان اللذان أصبحا شهيرين للغاية الآن في منطقة السليمانية حيث يعيشان، لم يكونا الوحيدين من بين طاقم الفيلم ممن لم يشاهد كاميرا مسبقاً. كل من عملوا في الفيلم كانوا كذلك، ومعظم أهل المناطق التي صور فيها كرزان مشاهده كانوا كذلك. يقول: «بدأت من الصفر مع طاقم الفيلم، علمتهم كل شيء. ليس الممثلين وحسب لكن المدينة بكاملها غير معتادة على الأمر».
عملية التصوير استغرقت 38 يوماً، لكن كرزان يشير إلى أنه كان صور أجزاء من الفيلم في فترة سابقة ليتوقف العمل بعد اندلاع مظاهرات في المدينة حال تفجر موجة الربيع العربي في المنطقة. يقول: «كانت هناك مظاهرات في كل مكان وتم اطلاق الرصاص وكان الناس يموتون فالغينا كل شيء وعدنا إلى السويد. بعد ذلك خسرنا كل المشاهد التي صورناها ولم نتمكن من العودة إلى التصوير إلا بعد خمسة أشهر حين استقر الوضع».
العدد 3892 - الجمعة 03 مايو 2013م الموافق 22 جمادى الآخرة 1434هـ