نواصل في هذا الجزء قراءة ديوان «في خاطري يبكي الحنين» من خلال المحور الخامس في الديوان وهو الذي يحمل عنواناً منفتحاً على أكثر من موضوع (مراسلات ومداعبات). تنفتح شاعرية متدفقة بروح الأخوة والدعابة والأنس والبشاشة. وتتراءى شخصية الشاعر المرحة التي تلون كل المناسبات والأمكنة بألوان البهجة والسعادة. وترسل رسائل المودة لجميع القلوب؛ تواسي كل حزين، وتتودد لكل صديق، وترسم البسمة على الشفاه. ففي تحيته لصديقه المرحوم إبراهيم العريض يرصع الشاعر أبياته بنبرات المحبة الصادقة، يخلد فيها ذكرى صديقه الحبيب، يمدح شعره ومشاعره، ويثني على سيرته وشاعريته، ويرسلها رسالة إطراء ووفاء تتجاوز كل المسافات:
التحيات باقة من زهور
نثرتها على خطاك الدروب
والأماني فجر أطل وروض
بتجليك زاهـر وخصيب
ومعين الإبداع شعرك غضا
ند عنه نفح وضوع طيب
والمعاني المجنحات كروم
يسكر الحرف خمرها فيطيب
وربيع الزمان بستان شعر
يجتنـي منه شاعر وأديب
في هذا المحور تعددت المراسلات الشعرية الموجهة لأصحاب القلم، وحضرت المساجلات المتبادلة بين أرباب الكلمة الشعرية، تهنئ المبدعين وتقرظ أعمالهم وترسل عبارات المودة والتقدير للطبقة المثقفة المهووسة بالقول الشعري. وفي هذه الأشعار ترتقي نسبة الجمالية في القصائد، وتزداد درجة بلاغة الإبداع، سواء في مستوى التصوير الفني، أو في دقة انتقاء اللغة الشعرية الموحية. وهنا نستمع إلى شاعرنا وهو يرسم انطباعاته بالصورة الشعرية وبالكلمة الموحية والإيقاع الجميل:
غنى الحداة فهل عرفت الحادي
فسل الشذى أو سل عبير الوادي
سفر من الأشعار (أحمد) ساقه
من غيره يروي غليل الصادي
من غيره يذكي الأوار إذا خبت
نار وعاد النصل للأغماد
ديوانه غزل تفجر لوعة
بالغيد، فهو لهن بالمرصاد
يستلهم المعنى الجميل من الهوى
بجمال ليلى أو قوام سعاد
من كان خمرته اللحاظ فلا يرى
في الكأس رعشة الأجساد
يا طائفا بالحسن يقطف ورده
لم تبق بستانا إلى مرتاد
جاهرت والعشاق تكتم سرها
في غفلة من أعين الحساد
وعن ديوان آخر يقول مبديا مواقفه من القول الشعري ومن أهله، وخصوصاً حينما تبدعه أنامل بتاء التأنيث جمعت بين رقة الأنوثة وجمال الفن وخيال الشعر:
ظمأ الشعر، روحه العطشانه
ترتوي من قريحة فنانه
لا ترى الوجود غير احتفال
شاعري وصورة فتانه
سحر هذا الكون البديع من الخالق
إذ قال كن جميلا فكانه
ريشة الفن تستمد طيوفا
من شموس منيرة أكوانه
وبحور الأشعار يسكنها الدر
وتخفي في سرها مرجانه
ليس من غاص يجتني الدر في
القاع، كمن هام قاصدا شطآنه
كلهم شاعر ولكن أخا
الشعر من أتم بنيانه
أما المداعبات والمساجلات فمائدة شعرية شهية وطريفة، تأخذ بلب القارئ وتأسر قلبه، وتزيده لذة ومتعة. تعددت نصوصها، وشكلت مظهراً ثقافيّاً معبراً عن تواصل النخبة الشاعرة وتحاورها فيما بينها، ودالا على المستوى الفني الرفيع الذي كان عليه رفاق الشاعر في قرضهم للشعر، وفي توظيفهم له كقناة فنية لبث روح الدعابة ومد حروف المحبة وتقاسم معاناة الهوس الفني وتنشيط الحقل الثقافي. وفي هذا السياق تتقدم مجموعة من المساجلات الشعرية كشاهد على جدية هذا المشروع وأهميته، منها هذا النموذج الشعري الطريف الذي يجسد حوارا شعريا/ نقديا بين الشاعر وأحد رفاقه الأدباء حول المسألة الإبداعية، وحول علاقة المبدع بشعره، يقول الأديب محمد جعفر العرب معاتباً الشاعر على هجره للشعر:
أبا أسامة قل يا خير مصطحب
ما سر هجرك عمدا ساحة الأدب
قد كنت بالأمس سباقا بلا جدل
واليوم بعدك عنها بعد مغترب
أبا أسامة طال الانتظار بنا
ماذا جرى لك أفصح لي عن السبب
فيجيبه شاعرنا بقصيدة على نفس البناء الإيقاعي، مطلعها:
يا جعفر الخير بل يا جعفر العرب
ليس التشاعر من طبعي ومن اربي
لا أقرض الشعر إلا عن طواعيـة
ولا أقول بأني شاعر العرب
إن أمني الشعر أدنيت الوساد له
وإن تناءى تناءى غير محترب
ولا يخفي الشاعر في هذه القصيدة موقفه من بعض شعراء زمانه ممن أساؤوا إلى فن الشعر، فمزقوا كيانه، وهتكوا عرضه، واستباحوا حماه، فجعلوه طلاسم وألغازا وتعمية:
يا لهف نفسي على الفصحى وما فعلت
بها الطليعة من حمالة الحطب
تمزق الشعر أوزاناً وقافية
وأحرق البيت بالنيران واللهب
وأصبح النظم ألغازا وتعمية
ما بينها وفصيح القول من نسب
وإذا كانت المحاور السابقة ترسم صورة المبدع في علاقته بالمجتمع الثقافي والمهني والسياسي، فإن المحور السادس (الألف والسكن) يحملنا إلى قرارات بيت الشاعر، نطل من خلاله على حياته الخاصة في ارتباطه بأهله وذويه. وهنا تنكشف ظلال الذات الشاعرة التي تتقاطع فيها الحساسية الإبداعية بالمسئولية الزوجية والأبوية. فتأتي الأشعار محملة برقة الشعر ممزوجة بقيم الوفاء والمحبة والصدق العاطفي. وإذا كانت هذه القيم هي جواز السفر الذي لا مناص منه للعبور إلى ضفاف القلوب، لامتلاك مفاتيحها واستيطانها والتربع على عروشها، فإن أولى الناس بها هم خاصة الخاصة بالنسبة إلى الشاعر، أهل بيته، من ملأ عليه دنياه شذى وعطرا، وغمرها حبا ودفئا. الملاذ الآمن والقلب الحنون وشريك الأيام و السنين؛ أم البنين:
لا خلا البيت من شمائلك الغر
ولا غاب نجمك الوقاد
أنت في الدار عطرها وشذاها
يجتنيه البنون والأحفاد
وملاذ إذا ألمت خطوب
وعماد تشده أوتاد
قد بذلت الإحسان نهجا إلى الخير
ونعم العطاء للخير زاد
لا عدمناك كلنا مغرم فيك
فأنت المنى وأنت المراد
ولم ينس الشاعر أزهاره العطرة التي تزين روضه، ونجومه المتلألئة التي تضيء سماءه. فكان لهم نصيب من هذا الشعر، يعكس عاطفة الأب الوديع وروحه التي سكنت في أكثر من جسد. وهنا تتجلى لنا هذه الروح في بطاقات التهنئة التي خص بها الشاعر من سكن مقلة العين، ومن ألهمه قول الشعر وعشق الفن: لميس وأسامة وياسر وأيمن. كان الشاعر متابعا لمسارات بنيه، موثقاً لتفاصيل حياتهم، قريبا من ذبذبات قلوبهم وحركات أنفاسهم. يستمع إلى كل النبضات، ويتفاعل مع كل الأحداث والمناسبات:
ولدي يا أسامة الحب والخير
حباك الإله بالرضوان
أنت مني حشى وخفق فؤاد
وأنا منك نبضة من حنان
ياسر أنت سحرها وشذاها
ولك الدوح، والهزار الطروب
المسرات في حضورك تأتي
وإذا غبت رافقت القلوب
مضى أيمن وخلا منزل
وخلف في كل مرسى شراعا
فما أصعب البين في زهوة
من العمر بل ما أمر الوداعا
العدد 3892 - الجمعة 03 مايو 2013م الموافق 22 جمادى الآخرة 1434هـ
ٍص ح
ربي اسألك التوفيق لي وللجميع
أبيات جميلة عجبتني