ذكرنا في الفصل السابق أن العديد من الباحثين يرجحون أن الجماعة المؤسسة لدولة دلمون كانت متأثرة بدرجة كبيرة بحضارة وادي السند، بل إن جزءاً من هذه الجماعة ينتسب لحضارة وادي السند وهم الميلوخيون. بالطبع، لا يمكن تحديد درجة الانتساب هذه إلا أنه كلما تعمق الباحث في دراسة تفاصيل حضارة وادي السند وما حل بها وكيف تفرقت شعوبها، وجد العديد من «المصادفات» التي تتقاطع مع تاريخ حضارة دلمون وما آلت إليه. في الواقع، ربما تكون قصة هاتين الحضارتين واحدة ولكن وجد لها نسختان، نسخة وادي السند ونسخة دلمون. هذه القصة لا تروى أبداً في البحوث والكتب التي تناولت تاريخ دلمون فهذا نقاش «خارج النص المألوف»؛ وعليه سنعرض هذه القصة بنسختيها، السندية والدلمونية، والتي ربما اعتبرها البعض «ضرباً من الخيال»، فهل هي حقاً خيال؟
وادي السند وأصل «السكلر»
في الفترة ما بين 1750 - 1500 ق. م. بدأت حضارة وادي السند في التدهور وذلك لعدة أسباب منها جفاف النهر الذي كان يعتبر العصب المغذي لهذه الحضارة (Cordaux et al. 2003)، وفي هذه الفترة نفسها حدثت، أيضاً، هجرة لشعب عرف بالأريان (الشعب الهندي الأوروبي) لحضارة وادي السند. وقد اندمج جزء من شعب حضارة وادي السند مع الأريان ونتج عن ذلك نظام الطوائف أو الطبقات الاجتماعية (castes) والذي يشمل ثلاث طبقات: العليا والوسطى والسفلى (Majumder 2001). أما المجموعة الثانية من شعب حضارة وادي السند والتي لم تندمج مع الأريان وبالتالي لم تندمج في النظام الطبقي فقد كونت مجموعات قبلية بدأت بالانتشار في شبه القارة الهندية منذ 1500 ق. م (Misra 2001). وهذه القبائل بقيت حتى يومنا هذا. وغالباً ما تعتبر هذه القبائل منعزلة عن المناطق المدنية القريبة منها. وهذه القبائل ليست كلها متقاربة؛ فبعض هذه القبائل تبعد آلاف الأميال عن بعضها البعض (Misra 2001). ويتفشى بين أفراد هذه القبائل مرض فقر الدم المنجلي (السكلر) بصورة حصرية تقريباً، وتدل الدراسات الجينية على أن هذا النوع من السكلر هو نوع خاص (يعرف غالباً بالاسم العربي - الهندي) وهو يختلف تماماً عن الأنواع الإفريقية وبذلك يمثل هذا النوع بصمة جينية خاصة بهذه الشعوب دون غيرها (Labie et al. 1989, Ramana 2000 and Niranjan 1999 ). وهذا دليل قوي على أن تلك القبائل منحدرة من أصل واحد؛ وعليه يمكننا القول إن هذا النوع من السكلر ظهر قبل أن تنفصل تلك القبائل عن بعضها البعض أي عندما كانوا يعيشون في حضارة وادي السند أي قبل العام 1800 ق. م. وتدل الدراسات التي أجريت على عظام شعوب حضارة وادي السند (التي تعود لما قبل العام 1800 ق. م.) أن الأنيميا كانت موجودة في تلك الفترة وأن الأنيميا الوراثية (السكلر والثلاسيميا) كانت منتشرة فيها (Kennedy 1984, Lovell 1998 and Labie et al. 1989). من ذلك نستنتج أن الطفرة الجينية، التي تسببت بظهور هذا النوع الخاص من السكلر، حدثت بين هذه الشعوب قبل العام 2400 ق. م وانتشرت بين شعوب حضارة وادي السند في فترة ذروتها (2400 ق. م. - 1800 ق. م). وسبب انتشار هذه الطفرة هي الميزة الإيجابية لمرض السكلر، حيث إن حامل هذا المرض يكتسب مناعة ضد مرض الملاريا المنتشرة بصورة كبيرة بسبب الزراعة والماء الراكد الذي يعيش فيه البعوض الذي يحمل طفيل هذا المرض.
في الوقت الراهن، في منطقة النيبال ومناطق أخرى في شبه القارة الهندية يطلقون اسم «أوال» awal على مرض الملاريا (Tilman 1952, p. 10)، وتلقب الشعوب التي تكون لديها مناعة من مرض «أوال» باسم الإواليون؛ وقد ورد في أحد التقارير عن الشعوب الأصلية المهمشة في النيبال في شبه القارة الهندية والذين يسكنون في منطقة تيرائي terai أنهم يلقبون باسم Awaliya (يمكن تعريبها لتصبح: الأواليون) والذين يعرفون بالشعوب الأصلية لهذه المنطقة، وقد عرفوا بهذا الاسم لأنهم تكيفوا مع مرض الملاريا وبذلك يصبح معنى اسم «الأواليون» الحرفي «المقاومون لمرض أوال» (Lohorung and Rai 2008, p.3). بالطبع أن سبب مقاومتهم لمرض أوال أو الملاريا أنهم يحملون جين فقر الدم المنجلي الذي يعطي حامله وقاية من مرض الملاريا؛ فبالتالي فإن الأواليون في شبه القارة الهندية هم الشعوب الأصلية التي تعاني من الفقر والتهميش ومن مرض فقر الدم المنجلي.
«السكلر» في دلمون
أول حالات السكلر الأكيدة التي عثر عليها ضمن حدود دولة دلمون كانت في هيكل عظمي يعود تاريخه لما قبل الحقبة الهلنستية (قبل العام 300 ق. م.) وذلك في جزيرة فيلكا (Maat and Baig 1997). كذلك، فإن الدراسات التي أجريت على عظام الشعوب القديمة لجزر البحرين والمستخرجة من أربع مقابر يعود تاريخها للفترة الهلنستية (300 ق. م. - 250 بعد الميلاد) أثبتت وجود أنيميا وراثية (السكلر والثلاسيميا) (Littleton 1998 and Littleton 2003)؛ وهذا يعني أن السكلر كان منتشراً بين سكان دلمون، واستمر بقاؤه بسبب ميزته الإيجابية كمناعة من مرض الملاريا الذي ينتشر حيثما انتشرت الزراعة والمياه الراكدة. وعندما استوطنت القبائل العربية (عبدقيس والأزد وإياد) البحرين في القرن الثالث بعد الميلاد، لم تجد لنفسها بديلاً سوى الاندماج مع الشعوب الأقدم منهم والذين تكيفت أجسادهم مع مرض الملاريا، والذين يمتلكون أيضاً جينات تمكنهم من مقاومة هذا المرض. حدثت أيضاً في هذه الفترة غربلة للسكان، أدت تلك الغربلة لمزيد من الاندماج والانصهار بين القبائل العربية والجماعات الأقدم منها (راجع سلسلة بناء النموذج التي نشرناها سابقاً). ويبدو أن الصدف تلعب دورها هنا حيث إن حضارة دلمون التي نشأت على جزر البحرين تأثرت كثيراً بحضارة وادي السند، وربما ساهم جزء من شعوب حضارة وادي السند في بناء دلمون. ومصادفة أخرى أن الملاريا والسكلر انتشرا في حضارة دلمون، بل إن الدراسات الجينية التي أجريت على جين السكلر، الذي ينتشر حالياً في البحرين (بين سكان القرى بصورة أساسية)، أثبتت أن هذا السكلر هو النوع المنتشر نفسه في الشعوب القبلية في شبه القارة الهندية والذين يعرفون بالشعوب الأصلية (Al-Arrayed and Haites 1995, and Al-Arrayed et al. 2003). ومصادفة أخيرة، أن جزيرة البحرين عرفت أيضاً باسم «أوال» وأصبح الأواليون مقاومين لمرض الملاريا المنتشر فيها. ولكن، أليس «أوال» اسم صنم؟ فلا يمكن إذاً ربطه بالملاريا، ولكن هناك مناقضة أخرى أن البحرين عرف عنها أنها مسيحية نسطورية ولم تشتهر بأنها وثنية لكي تسمى باسم صنم وهي فرضية مازال يشكك فيها البعض (العماري 2009).
رياضياً، من الصعب قبول كل هذه الأحداث «صدفة»؛ فالصدفة هنا يمكن حسابها بحسب قانون الأحداث المستقلة والتي ستكون نسبة احتمال حدوثها منخفضة جداً. لنترك الرياضيات جانباً، فقط تأمل المصير المشترك الذي آلت له سلالة حضارة وادي السند وسلالة حضارة دلمون فكلاهما يعيشون في قرى أو قبائل يعاني سكانها - دون غيرهم - من مرض السكلر وأمور أخرى مشتركة.
العدد 3892 - الجمعة 03 مايو 2013م الموافق 22 جمادى الآخرة 1434هـ