العدد 3885 - الجمعة 26 أبريل 2013م الموافق 15 جمادى الآخرة 1434هـ

إبراهيم غلوم: تاريخ البحرين الحديث مليء بالفجوات والتناقضات

قال الأستاذ الدكتور إبراهيم عبدالله غلوم، إن تاريخ البحرين الحديث مليء بسلسلة من الفجوات التي أغفلها المؤرخون وتجاوزوها في كتابتهم لتاريخ المنطقة. وأطلق الدكتور مصطلح «التبئير» على ظاهرة الإغفال تلك، معتبراً إياها ظاهرة خطيرة ينبغي على الباحثين معالجتها اليوم عبر الوقوف على وعي الحقبات التي تم تجاوزها، من خلال مفهوم مركزي وأساسي كمفهوم المجتمع القبلي والوعي الوطني.

جاء ذلك في محاضرة ألقاها تحت عنوان «التاريخ والتبئير الثقافي»، وذلك خلال احتفالية نظمها مركز عيسى الثقافي بمناسبة اليوم العالمي للكتاب، تم خلالها تكريم غلوم، الذي يعد أحد أعمدة الأدب والنقد في تاريخ البحرين الثقافي المعاصر، وإهداؤه درع خصصه المركز للمفكرين الذين يتم تكريمهم.

وأشار إلى أن محاضرته محاولة لإنزال نظرته النقدية للتاريخ على واقع خطاب أدبيات التاريخ في المنطقة، وخاصة تاريخ البحرين الحديث، والذي كتب على مدى أربعة عقود.

وأوضح غلوم أن المفهوم السردي للتاريخ، لا يوثق وعي ومعرفة المجتمعات التي يؤرخ لها عبر الإحاطة بالحياة التي عاشتها والحضارة والمدنية التي أسستها، وكل ما واجهته من عالم غامض وقوى مختلفة، مشيراً إلى أن ذلك شكل معضلة أساسية في كتابة التاريخ، وأنتج ما أسماه بالفجوات التاريخية، وهي فجوات عميقة وتقطعات ونواقص فادحة في الإمساك بما آل إليه وعي الفترة التي تم إغفالها.

وأوضح المحاضر أن غياب فكرة المعرفة والوعي والعقل في كتابة التاريخ الحديث للبحرين والخليج العربي، هو إشكالية تواجه التاريخ العربي كلها وليس تاريخ المنطقة وحسب.

وقال غلوم إن تلك الفجوات، هي ما أسماه بالتبئير، الذي وضعه عنواناً لمحاضرته، واعتبره ظاهرة خطيرة في كتابة التاريخ، مضيفاً أنه أخذ فكرته من الدراسات الثقافية والسردية، وأنه يعني وجود وجهة نظر تتحكم في مدار النص السردي، كما في قوله تعالى «نحن نقص عليك أحسن القصص» (يوسف:3)، إذ إن التبئير موجود في كلام الله، فهو الذي يتكلم ووجهة النظر محددة في هذا الضمير، فهو الذي يوجه النص وقصة يوسف كلها ستكون من منظور هذا المتكلم. إذن هناك موجه يدفع بالسرد أو يسترجعه أو يستأنفه أو يؤجله حسب وعيه.

ومن أمثلة الفجوات التاريخية في تاريخ البحرين (التبئير)، تلك المتعلقة بتاريخ دولة الجبور والعيونيين والهرمزيين في القرنين السادس عشر والسابع عشر، إذ أشار المحاضر إلى أن هذه المراحل يكتنفها غموض وتناقضات كثيرة، كالدولة العيونية التي دخلت في نطاق النزاع المذهبي وأصبح المرجع الموثق لها هو الشيخ علي بن المقرب العيوني فقط، ولا يوجد أي تأريخ آخر لهذه الفترة وللوعي فيها، وهي فترة خطيرة ظهر فيها القرامطة، وصعدت حركتهم في منطقة شرقي الجزيرة العربية.

وأضاف غلوم أنه نقل فكرة التبئير إلى التاريخ الثقافي ليعني وجود رؤية ثقافية مركزية مكثفة لمفهوم من المفاهيم المحركة لمجموع من المتغيرات والتحولات، مستشهداً بثلاثة أمثلة، الأول في كتاب ابن خلدون، وبؤرة رؤيته هي فكرة العصبية والعمران البشري؛ فدائرة نطاق المتغيرات لديه تبدأ في مساحة زمنية بؤرتها فكرة العصبية، وهي فكرة مطلقة وضع في مقابلها فكرة العمران البشري. ومن الفجوات الأخرى في تاريخ المنطقة، الجزء المتعلق بالهجرات العربية، إذ أشار إلى أن هناك ثلاث طبقات من الهجرات التاريخية الكبرى يتخللها سلسلة من الهجرات المتفاوتة.

الأولى هي هجرة الفتوح، التي وقعت بعد وفاة الرسول، والتي تمثل بداية الفتوح الإسلامية، ثم جاءت الهجرة الكبرى الثانية في القرن الرابع والخامس الهجريين، وهي هجرة القبائل العربية هلال وعامر وسهيل وبعض من تميم، وتجسدت في الرحلة الهلالية الشهيرة، التي انطلقت من نجد، ومرت بشرقي الجزيرة العربية ومنطقة الخليج.

وأفاد بأنه لا يوجد مصدر لهذه الرحلة سوى السيرة الهلالية وإشارات طفيفة في كتاب العلامة عبدالرحمن بن خلدون «العبر وديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والعجم والبربر»، وهو الذي لم ينصف هذه القبائل، بل وصفها بالرعوية والبداوة والتوحش، وربما أوحى بأن لها أغراضاًِ سياسية.

غلوم أكد أن ذلك لم يكن ذلك صحيحاً، وإن الجزيرة العربية مرت بكارثة طبيعية آنذاك فنفت أبناءها، كما رفض وصف ابن خلدون لهذه القبائل التي كونت أول تشكيلات بشرية في شرقي الجزيرة العربية، مفيداً بأن «هذا التشكيل مهم، لكن التاريخ غافل عنه لم يبحثه ولم يتقصاه، وهو غير موجود إلا في نصوص الشعر والأدب، والمؤسف أن المؤرخين غالباً لا ينظرون إلى النصوص الثقافية».

بعدها تحدث المحاضر عن الهجرة الثالثة الكبرى، وهي هجرة أحياء القبائل العربية من نجد في القرن السابع عشر الهجري وتأسيسها للتاريخ الحديث للبحرين والخليج العربي، وقال إن هذه الهجرة سجلتها الملاحم الشعبية والتراث والقصص وشظايا حكايات شفوية، لكن لم يرادفها أي وعي تاريخي، منها ما سجله النبهاني في تاريخه، وأغلبه منقول عن الشيخ إبراهيم بن محمد، وعن بعض وجوه وكبراء أسرة آل خليفة.

غلوم أشار إلى ازدهار مدن مثل الزبارة والقرين ودارين وهرمز على يد هذه القبائل في هذه الفترة، وقال إن الزبارة مثال على الفجوات التاريخية؛ إذ غاب تأريخ وعي تلك المدينة التي ازدهرت في غضون 30 سنة، وأصبحت مركزاً للتجارة في الخليج العربي، وطرحت فكرة توحد عربي للقبائل التي سكنتها بشكل لم يحدث من قبل، وشاهد ذلك الأحلاف التي تكونت مثل عرب الهولة والقواسم والبوسعيدين. وقال إن هذا التكوين التوحدي، الذي حاول أن ينقذ عرب المنطقة من براثن القوى الأجنبية استطاع في غضون سنوات قليلة أن يؤسس المدن الجديدة، وأن يشكل نواة لقوة جديدة، ولكن القوتين الأساسيتين في المنطقة، إيران والإنجليز، واجهتا هذا الوعي القبلي الذي يؤسس لمفهوم جديد في التجمع العربي في المنطقة، والذي يتحدى القوى الموجودة، فسقطت الزبارة.

وأكد أن الزبارة لم تسقط لنزاعات القبائل كما يشير المؤرخون، بل بسبب التسوية الواضحة بين الحكومة المركزية في طهران والإنجليز، وهما اللتان منعتا وصول شخصية معروفة من دارين ليكون والياً على الزبارة، وليعيد الاستقرار إليها.

كتاب فؤاد خوري، وهو المثال الثاني الذي ذكره المحاضره على التبئير، يضم الثنائية ذاتها، لكن يستخدم مصطلحات مختلفة؛ إذ يجعل القبيلة مرادفاً للعصبية، وإن كانت عصبية ابن خلدون أشمل من القبيلة لأنها أقرب ما تكون إلى المشروع القومي.

الخوري راهن على المجتمع المدني الحديث وعلى الدولة بأن تغير القبيلة، واتضح العكس فالقبيلة هي التي أثرت في مفهوم الدولة.

المثال الثالث على التبئير فأخذه غلوم من كتاب الدكتور علوي الهاشمي «التفكير الحضاري في البحرين»، حيث وضع ثنائية البحر والريف والبداوة والموت والخلود وما إلى ذلك.

هذا التبئير في المثالين، مثال ابن خلدون ومثال الخوري، يطرح كثيراً من الأسئلة الدلالية، «أخطرها مفهوم القبيلة، فحتى الآن لم ننظر إلى تاريخ المنطقة من خلال مفهوم القبيلة، وهو واحد من مرتكزات فهم تاريخ المنطقة، لذلك قلت إن الخوري وصل إلى نتيجة معاكسة لافتراضه، ورأى أن القبيلة تحولت إلى مجتمع قبلي، وتكوّن نوع من الانسجام بين القبائليين والمدينيين والريفيين».

حبكات «التبئير»

انتهى المحاضر إلى تقسيم التبئير في القرن التاسع عشر والعشرين إلى حبكات تاريخية مفتوحة غير مكتملة، تبدأ من دخول أسرة آل خليفة إلى البحرين حتى عزل عبدالله بن أحمد، ثم تبدأ من خلع الشيخ عبدالله بن أحمد إلى خلع الشيخ عيسى بن علي، وتبدأ الثالثة من خلع الشيخ عيسى بن علي إلى فترة الأربعينات ونهاية الحرب العالمية الثانية، ثم تبدأ حبكة تاريخية رابعة منذ أواخر الأربعينات وبداية الخمسينات إلى العام 1968، وتبدأ الحبكة التالية من السبعينات منذ الاستقلال إلى 1999، ثم تبدأ حبكة لا نزال فيها هي حبكة الميثاق الوطني.

هذه الحبكات غير مكتملة النمو، ويوجد فيها وعي لم يكتمل، يخترقها مفهوم المجتمع القبلي والوعي الوطني في محاولة لدمج الوعي الوطني بالمجتمع القبلي، وهو دمج غير مكتمل.

أخيراً، أشار إلى أن فكرة التبئير تعيد لخطاب التاريخ وعيه الثقافي وبعده الحضاري، وتؤسس لضرورة أن يقف المؤرخ على ما كان عليه وعي الحقبة في مجمله، ومن خلال مفهوم مركزي وأساسي، معتبراً مفهوم المجتمع القبلي والوعي الوطني مفهوماً مركزياً وأساسياً للحبكات التي وضعها.

اتجاهات كتابة التاريخ

قسّم غلوم اتجاهات كتابة التاريخ إلى أربعة، يعتمد الأول منها الرواية الشفوية مصدراً لكتابة التاريخ، كما في كتاب «التحفة النبهانية» لمحمد بن خليفة النبهاني، ومن بعده «مجموع الفضائل في فن النسب وتاريخ القبائل» لراشد بن فاضل البنعلي.

ووصف غلوم كتب هذه الاتجاه بأنها مليئة بالأوهام والخرافات، وأنها تقع أحياناً في مزالق التحيزات والسجالات، مستشهداً بالسجال الواقع بين الكتابين المذكورين.

الاتجاه الثاني هو اتجاه الدراسات الأكاديمية الحديثة، التي وصفها بأنها دخلت في وعي مرتبط ومقترن ومخاذن لوثائق الوكالات الأجنبية. وأشار إلى أن هذا الخطاب كان خطاباً متعدد الإردات منقسماً، ويعبر عن صراع القوى على المنطقة. وقال إن ما حدث هو أن هناك من أبناء المنطقة من كوّن وعيه من خلال هذا الخطاب، ما يعد مشكلة عميقة انعكست في أدبيات التاريخ الأكاديمية الحديثة بقوة، ولدى أسماء معروفة مثل بدر الدين الخصوصي، وصلاح العقاد، ومجموعة كبيرة من المؤرخين.

الاتجاه الثالث يجمع بين الدراسة والتحقيق، وهو اتجاه يكاد يكون منفرداً، وتمثله فيما كتبه «علاّمة الجزيرة العربية» حمد الجاسر، الذي كتب في تاريخ القبائل وجغرافيا الجزيرة العربية وأعلامها وبعض مراحلها السياسية. وأشار إلى أن الجاسر جمع بين الدراسة، التي تعتمد المنهج الوضعي، وبين التحقيق العلمي للنصوص والأماكن والرسوم والقبائل، وهو منهج أدى وظيفة ذات قيمة معرفية كبيرة.

أما الاتجاه الرابع، فهو الذي وضع الأسس الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في بؤرة النظر للعالم، حيث أصبحت هناك بؤرة محددة يقف عليها المؤرخ، وينظر من خلالها إلى كل ما يحيط بهذه المتغيرات من أفكار ومعرفة ووعي.

وتمثل هذا الاتجاه في كتابين هما «البحرين قضايا التغيير الأساسي والاجتماعي» للدكتور محمد غانم الرميحي، و«القبيلة والدولة في البحرين» للدكتور فؤاد إسحاق خوري.

العدد 3885 - الجمعة 26 أبريل 2013م الموافق 15 جمادى الآخرة 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً