العدد 3885 - الجمعة 26 أبريل 2013م الموافق 15 جمادى الآخرة 1434هـ

حسين أمين... كان تاريخاً يمشي على الأرض

المنامة - محمد حسن كمال الدين 

26 أبريل 2013

بين دجلة والفرات، كان يحمل العراق على كتفيه، مردداً في السر والعلن «هذا هو الفردوس الأعلى»، تاريخ العراق لم يمت في أحشار الأرض.

«جلجامش، إنكي، إنليل، مردوخ، شمّش» آلهة العراق القديم، أجساد نابضة بالتاريخ، حملوا علوماً أبدعها السومريون، والأكاديون، والبابليون، والآشوريون، وحين قابلها حسين أمين، وتنقل بين صفحات تاريخها، أصبح عاشقاً لا يجهل معاني عشقه، وحين سمعها تنطق من خلال آثارها، حوّلها إلى مادة ذهنية، تملأ كتب التاريخ، وتزخر بها مناهج التعليم، حقائق استنبطها حسين أمين من تلال العراق، ومن مطمورات أرضه، جيئةً وذهاباً. كان على أمين أن يدرس الحياة الأولى للعراق، جيئةً وذهاباً. كان على أمين أن يمارس حل ألغاز الأرض الغامضة، حيث هي الأرض التي تغلي في باطنها رسوم العهود الأولى للحضارات الإنسانية.

حسين أمين كان مؤرخاً يرى البعيد البعيد، حتى انه قال في إحدى محاضراته «أرى الآن الآلهة الآشورية السبعة، وأرى قاعة عرش الملك آشور ناصربال الثاني، في قصره الشمالي من مدينة (نمرود)».

أنت يا أخي كتبت تاريخ العراق، لكنك لم تكتشف العراق، وكتبت عن عصور السلالات، ولم تكتشف كل آثارها، كيف ذلك؟ سؤال وجهه إليه صديقه بهنام أبو الصوف، عالم الآثار العظيم، أجابه أمين ببساطة العالم الواثق، ونحن ساعتها كنا في قاعة اتحاد المؤرخين العرب العام 1986 «يا أخي الكريم على بهنام أبو الصوف استخراج المطمورات من باطن الأرض، وعلينا نحن الكتابة عنها». كان كثير الاعتماد على ذاكرته التي في باطن عقله، لكنه لم يكن يكتفي بها كمرجعية نهائية، بل كان يسندها بالمرجعيات من أمهات الكتب الموثوقة المصادر. أما ذاكرته التي أسعفته كثيراً، فإن تلامذته ومريديه، كانوا مبهورين بها، بل يفاخرون الآخرين أنهم تلامذة حسين أمين.

وثمة فضيلة أخرى تحلى بها أمين، ألا وهي «الصبر»، فقد ضبط اتجاهات بوصلة حياته، فأتقن الصبر بعزيمة إيمانية، هي أن العراق هو العراق، وأن مهد الحضارات سيبقى مهداً للحضارات، مهما ضربته الدنيا برياح عاتية، ومهما أرسلت إليه الدنيا وحوشاً ضارية.

حين التقيت حسين أمين لأول مرة بمكتبة قاسم محمد الرجب الشهيرة العام 1986، ارتسمت أمامي صورة العالم المليئة بالتواضع الجم، ومظهره كان يوحي بالتأمل والسكينة المستقرة على جسد سليم. وفي الحديث الذي دار بيننا حول التاريخ وإرهاصات التاريخ قال لي حين أبديت إعجابي بذاكرته: يا أخي العزيز الذاكرة القوية تمد العقل بالنشاط، وتجعله في حركة مستمرة مع الأشياء».

وهنا أدركت أن الذاكرة التي تنمو مع الزمن، وتتفاعل معه، يمكن أن تكون مصدراً، توحي إلى المؤرخ بالأدلة الصغيرة، والأدلة الكبيرة. وحينها فقط تيقنت أنني أصبحت تلميذاً لأستاذ يحتفظ في داخله بأسرار خميرة البحث والاستدلال والاستنباط، أما دراساته التاريخية فقد كانت مقيدة بأدق الأشياء، لكنه لم يكن باحثاً عن شهرة، حيث يعتبر جميع كتبه ومؤلفاته مبنية على ذات نفسه، انطلاقاً من تواضعه الزاهد زهد العلماء.

لأن أرض العراق لا تنكر أبناءها... ولأن أرض العراق تمنح للريح أشكالها... ولأن أرض العراق تترك الزيف لغيرها... فإن حسين أمين كان يمجد أرض الوطن، مخلصاً لها إخلاصاً لا شائبة فيه.

لقد بقيت هذه القيم الروحية في قلبه، حتى لاقى ربه بعيداً عن وطنه، وبعيداً عن محبيه، ولم يكن هذا العاشق راغباً أن يدفن في خارج وطنه، بل كان يحلم أن يختلط رفاته بتربة أجداده، وأطياف أجداده. يرحمك الله أيها العالم الجليل.

العدد 3885 - الجمعة 26 أبريل 2013م الموافق 15 جمادى الآخرة 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً