العدد 3885 - الجمعة 26 أبريل 2013م الموافق 15 جمادى الآخرة 1434هـ

شعرية الخطاب في ديوان البحارنة «في خاطري... يبكي الحنين» (4)

من شعر النضال والمقاومة ينتقل بنا الشاعر محمد تقي البحارنة في ديوانه «في خاطري يبكي الحنين» إلى أغوار نفسه العاشقة للارتحال والأسفار، حيث كان السفر وتغيير الأجواء والأمكنة مرادفات لذاته. ولذلك أفرد المحور الثالث (لسباق المسافات)، يترجم فيه بالكلمة الشعرية لجزء آخر من حياته؛ الحياة الوديعة التي استمدت من الشعر عبيره وعنفوانه وجماله. في هذا المحور تخاطبنا القصائد بلغة شعرية جديدة وبتراكيب حبلى بالجمال والخيال والأدبية، يختزلها البيت الآتي:

قد همت بالأسفار أعشقها... غراماً مستحيلا

كم سابقت خطوي الشموس... فكدت أسبقها وصولا

في هذا المحور تتدخل الخبرة والحكمة والتجربة في صياغة القصائد ونظم الأبيات، تغذيها الحساسية الجمالية، وتزيد في بهائها رومانسية تتجاوز الواقع وتتمرد على التراب، وتنفلت من مغناطيس المادة، لتعتصم بالمثال وتتطلع إلى درر الجمال الكامن في صور الوجود، في الغاب، في صورة الإنسان، في الشمس والقمر، في أزاهر البستان:

روض خمائله تميس

تشتاق منظره النفوس

في غابة طاب المسير بها

وطاب لنا الجلوس

ملتفة أغصانها

كالعرس... عانقها العريس

نحني الرؤوس لفرعها

ولمثلنا تحنى الرؤوس

وتشابكت فيها الحشائش

والأزاهر والغروس

والطير يشدو تارة

أو فوق هامتها يجوس

والماء يجري في البحيرة

فهو منطلق حبيس

فجداول غنت وشلال

حمى فيه الوطيس

بهذه اللغة الشفافة الرقيقة يرسم الشاعر هذه اللوحة الطبيعية، ينتقي الكلمات ويختار العبارات ويستدعي القاموس الرومانسي ليمنحه طاقة للتعبير والتصوير. لكنه يزيد الصورة رومانسية حينما يوظف لغة السرد الشعري لوصف مشهد الرفقة والأنس في أحضان الطبيعة:

سرنا إليه صبيحة

والجو صحو لا عبوس

في رفقة مأنوسة

والأنس يجلبه الأنيس

كم جنة حسنت مناظرها

وصاحبها تعيس

ومهامه كالخلد تحسبها

إذا حضر الجليس

وفي غمرة هذه الرحلة المؤنسة يستعيد الشاعر وعيه بالحياة ويتذكر صروفها ويدرك تناقضاتها. فيمزج رومانسيته الحالمة بلغة الحكماء، ويعيد خياله المحلق إلى الوقوف عند تخوم الواقع حتى يستوعب الدروس:

تلك الحياة وحكمها

فوق القياس... لمن يقيس

فترى النفيس مرخصا

وترى الرخيص هو النفيس

همست لي الغابات فـي

المسرى، فآنسني الهموس

تأتي السعادة ثم تمضي

والدروس هي الدروس

ليست تباع، وليس تشريها

الدراهم والفلوس

وفي تجربة شعرية رومانسية أخرى يصوغ الشاعر رؤيته إلى الجمال الممتد على ضفاف المحيط في بلاد المغرب، مستعينا ببناء شعري درامي عبر الحوار بين أغادير وإيموزار، حيث لمس الشاعر معاني الحسن والبهاء في الناس والأرض والسماء. وهناك تفتقت شاعريته، وتدفقت قريحته، وأبدعت ملكته شعرا يحاكي المكان روعة وعذوبة. ففي مباهج الطبيعة وبين مناظرها الخلابة أحس الشاعر بأنه قد أصبح من أهل الجنة قبل الأوان، وامتلك موضعا فيها بعدما عثر على مفاتيحها، فاستحم بعطرها وأذهب الأحزان بمفاتنها:

هل سرت مثلي في أغادير

الجمال بلا عنان

تتقاذف الأمواج خطوك

سارحا بين الحسان

أو فوق أرصفة المدينة

غارقا في الأرجوان

أو هائما بالعطر

من نسماتها والأقحوان

قدماي- عفوا - سارتا

بين المرابع والمغاني

فعثرت في الجبل الأشم

على مفاتيح الجنان

كتب الإله بأن أطوف

بجنة قبل الأوان

ما شئت من حسن فخذ

زاداً لقافية البيان

أو كنت مكلوم الفؤاد

غسلت حزنك... في ثواني

وبعد سياحة طويلة في تضاريس الأرض وزرقة السماوات وعلى امتداد المسافات يعود الشاعر ليبدع شعرا من صميم مهامه وانشغالاته، سماه: «أشعار التجار». وهو مصطلح نقدي وتصنيف شعري جديد من إبداع الشاعر. في هذا المحور تستوقفنا أشعار من نوع خاص، أشعار تقارب عالماً لا يلتفت أصحابه عادة إلى ماء الشعر وخضرة الأدب، يمضون أغلب أوقاتهم في مغازلة الأرقام وإحصاء النسب وتعداد السندات. عالم المال والأعمال، عالم فئة من الناس لا وقت لديهم للتحليق مع الصور والأخيلة. تأسرهم العقلانية والمنطق وتستهويهم الإدارة والصفقات والاجتماعات. لكن الشاعر بفضل شخصيته التي جمعت بين الأدب والعلم اقتحم هذا العالم بسلاح شعري فتاك وبذخيرة كبيرة من العبارات والصور البديعة التي تحدث وقعا فنيا جميلا في طبقات الفكر، وتقلل من جاذبية متعة المشاريع، وتخلص المرء من صرامة التفكير المادي، وتعتلي به إلى مواطن الجمال، وتعرج به معارج السمو الروحي، وترتقي به مدارج الفن النبيل. وهكذا نجد الشاعر يرى في فن الإدارة جمالاً يناظر جمال النغم وبهاء الترتيل، جمالا في التخطيط والتنظيم وتدبير الوقت وإتقان الصنعة وإدارة الأعمال وتسيير الرجال:

إن فن الأداء فيه جمال

شاعري كنغمة الترتيل

أتقن الله صنعه ليجيد

المرء صنعاً حتى يفي بالجميل

ليس من يبرم الأمور بعزم

مثل من يستنيم للتأجيل

وإذا استعصت الأمور على

العاقل أن يهتدي برأي الخليل

ومن العلم أن يكون عليماً

بصغير الأمور قبل الجليل

قدوة في السلوك فهو مهاب

شخصه في غنى عن التبجيل

وهو في الجهد بارع نافذ الحيلة

لا يرتضي بغير الجزيل

يرصد الفرصة الكبيرة للأعمال

تأتي نعماؤها كالسيول

فاز بالغنم من يدير المعالي

عند أوقاتها بلا تأجيل

إن الشاعر في هذا المحور يرسم خريطة لتحركاته، ويدون مذكرة لاهتماماته وانشغالاته. فظلال تجربته الحياتية تحيط بتجربته الشعرية من كل جانب، وتمنحها الخصوصية والتميز. فارتباط الشاعر بعالم المال والأعمال، وترأسه بعض المؤسسات المالية، وارتباطه بأصحاب الأسهم والمشاريع، جعله أهلاً لسبر أغوار هذا العالم. ولذلك جاء شعره ترجمة صادقة لجوانب مهمة من سيرته الذاتية في جانبها العملي والوظيفي. فها هو ينقلنا مرة أخرى إلى عالم البورصة الصاخب، إلى حركات الأسهم وحروب المضاربين وأحلام المساهمين:

هبطت أسهمي من الجوزاء

واستقرت في حارة الفقـراء

سعرها كان في السماء ينا

جيني بحلم الثراء والأثرياء

أين فوزي إني توسمت فيه

خير ما يرتجى من المدراء

سوف يبني سوقاً كسوق عكاظ

لذوي المال... ليس للشعراء

وسيغدو للسهم سعر وصرف

لا كصرف الخليل والفراء

والمنادي إذا تعالى بصوت

أخرسوه، بأسهم خرساء

صانع السوق ماهر يعزف

الألحان للخاسرين والسعداء

هي حرب سلاحها أسهم الأوراق

تدمي لكن بغير دماء

العدد 3885 - الجمعة 26 أبريل 2013م الموافق 15 جمادى الآخرة 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً