العدد 3885 - الجمعة 26 أبريل 2013م الموافق 15 جمادى الآخرة 1434هـ

الدلمونيون الأوائل: هل هم أحفاد «النساجين» الأوائل؟

أحد النساجين من قرية بني جمرة
أحد النساجين من قرية بني جمرة

سبق أن أشرنا في فصل سابق إلى أن دلمون المبكرة تحولت إلى «دولة» سادت فيها ثقافة عرفت باسم «ثقافة باربار»؛ نسبة إلى المعابد التي شيدت في تلك الحقبة في منطقة باربار على الساحل الشمالي لجزيرة البحرين. إن مفهوم الدولة لا يمكن التنقيب عنه كشيء مادي؛ لأنه مصطلح «نظري» يُعطى لكيان له معايير محددة، كوجود السلطة السياسية والتقسيمات الإدارية والقوانين والموارد الاقتصادية، وبذلك فإن أي كيان يحتوي هذه المكونات يصبح «دولة». كذلك فإن الدولة لا تنشأ صدفة؛ فهي تمر بمراحل أولية يتم خلالها تكوين مقومات الدولة الأساسية، وتستمر تلك المراحل حتى تصل تلك المقومات إلى مرحلة النضج، أي مرحلة تكون الدولة. بحسب هذه المفاهيم تمت دراسة تطور الحضارة التي تأسست على أرض البحرين، في قرابة العام (2300 ق. م). وكانت نتيجة تلك الدراسات أن هناك دولة أو مملكة تأسست وتطورت عبر القرون اللاحقة (بقيت حتى قرابة العام 1750 ق. م)، وقد تم التعارف على تسميتها «دولة دلمون» (Hojland 1989) و(Hojland 1993). كانت «دولة دلمون» في بداية حقبة التأسيس تتكون من مجموعة بسيطة من الأفراد، الذين قاموا ببناء بيوت صغيرة متجاورة، وليس لها سور يجمعها، وذلك في موقع قلعة البحرين قرابة العام 2300 ق. م هذه المجموعة لم تكن حينها قادرة على تصنيع كل أدواتها ومستلزماتها، فقد اكتفت بتصنيع فخار بسيط خاص بها (ذات العصابات الناتئة بشكل السلسلة)، وقامت بتعويض النقص عن طريق استيراد فخار خاص وبضائع أخرى من حضارة أم النار في الإمارات وحضارة وادي الرافدين وحضارة وادي السند، وقد كان كل أنواع الفخار (المستورد والمحلي) يستخدم في الزمان نفسه بل في المكان نفسه (Hojland 1993) و(Laursen 2009) و(Laursen 2011). هذا التشكيل لهذه الجماعة مشابه تماماً للتشكيلات الأخرى التي تكونت على شرق الجزيرة العربية؛ ما يدل على بداية هجرات لجماعات معينة كونت ما يشبه التكوينات القبلية أو الدولة البدائية أي الطور الأول لتكوين الدولة (Hojland 1993).

الجماعات المهاجرة

إن فكرة انفصال مجموعات عرقية معينة من حضارة وادي الرافدين وتكوين مجتمعات مستقلة، في البحرين وشرق الجزيرة العربية، تبدو منطقية ويمكن تعليلها في ضوء الانتشار الثقافي عن طريق هجرات الجماعات (Carter 2012). وقد اقترح Carter أن الجماعة التي كونت «دولة دلمون» كانت تحمل منذ هجرتها فكرة السيطرة التجارية في منطقة الخليج العربي عن طريق تكوين سلسلة محطات تجارية، وهو ما تحقق لها فعلاً وذلك في فترة ذروتها، وهو ما سنناقشه في فصول لاحقة (Carter 1993a) و(Carter 1993b) و(Laursen 2009). إذاً، هناك ترجيح أن جماعة عرقية معينة هاجرت من جنوب الرافدين واستقرت في البحرين، حاملة معها أسرار التجارة والحرف اليدوية. وهناك ترجيح بأن يكون من ضمن هذه الجماعة مكون أساسي ينتمي إلى الميلوخيين أو المتثاقفين بثقافة حضارة وادي السند (Parpola et al. 1977) و(Brunswig et al. 1983) و(During Caspers 1995) و(Laursen 2010).

فقبل حقبة تأسيس القرية الأولى، التي تطورت إلى دولة دلمون لاحقاً في البحرين، أي في الحقبة السومرية، كان جنوب الرافدين يتمتع بعلاقات مباشرة مع دلمون (ربما شرق الجزيرة أو مكان آخر) ومَكَن (Magan) في الإمارات وعمان وحضارة وادي السند (T. Potts 1993) و(D. Potts 1993). وبحكم العلاقات المباشرة مع وادي السند استقرت أعداد كبيرة من أفراد هذه الحضارة في مواقع مختلفة في جنوب الرافدين، وعرفت هذه المجموعات باسم «الميلوخيون»، الذين كونوا قرى عرفت باسم قرى ميلوخا (Parpola et al. 1977) و(Vidale 2004) و(Vermaak 2008).

هذه الجماعة عاشت كالغرباء في جنوب الرافدين، وقد استطاعت هذه الجماعة أن تكون مكوناً مهمّاً في اقتصاد جنوب الرافدين؛ فبالإضافة إلى مقدرتهم على التواصل بين تجار حضارة وادي السند (كونهم ينتمون إلى الثقافة نفسها) فقد عملوا كحرفيين وبالخصوص في حرفة النسيج، التي دخلت المنطقة من وادي السند عن طريقهم. وحتى في عهد أور الثالثة كان الميلوخيون هم السبب في جعل جيرسو أحد أهم مراكز النسيج في الشرق الأوسط؛ حيث يشير أحد النقوش إلى وجود 4272 امرأة و1800 طفل جميعهم يعملون في النسيج، بالإضافة إلى وجود نقوش أخرى تشير إلى أعداد كبيرة أخرى (Vermaak 2008).

إن صحت ترجيحات العديد من الباحثين أن جزءاً من الميلوخيين أو المتثاقفين بحضارة وادي السند كانت مكوناً أساسي ضمن الجماعة المكونة لدولة دلمون في البحرين؛ فمن الطبيعي إذاً أن تكون هوية دولة دلمون الأولى تحمل طابع حضارة وادي السند، وهذه حقيقة لا ينكرها أحد من الباحثين، فدولة دلمون استعملت أوزان حضارة وادي السند وأختاماً تحمل هوية حضارة وادي السند، ولمزيد من المعلومات يمكن الرجوع إلى هذه المصادر (Brunswig et al. 1983) و(Hojland 1989) و(Hojland 1993) و(During Caspers 1995) و(Laursen 2010). كذلك، يمكن تعليل سبب شهرة دلمون - البحرين بالنسيج وتصدير القطن، وقد اعتبر البعض دلمون من أهم مراكز النسيج وزراعة القطن وتصديره في الشرق الأوسط، سابقة بذلك مصر بسنوات طويلة (Alvarez-Mon 2005) و(Wild 1997).

وتشير نقوشات قديمة إلى أن دلمون قد اشتهرت، أيضاً، بتصدير المنسوجات الكتانية لحضارة وادي الرافدين (Reade And Potts 1993)، هذا وتؤكد الدراسات الأركيولوجية أن القطن كان فعلاً يزرع في البحرين (Tengberg et Lombard, 2001). ولمزيد من التفاصيل حول تاريخ النسيج في البحرين منذ حقبة دلمون وحتى الوقت الراهن يمكن الرجوع إلى كتابنا «مهنة النسيج في بني جمرة»... يتبع.

العدد 3885 - الجمعة 26 أبريل 2013م الموافق 15 جمادى الآخرة 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً