يسألُ المذيعُ ضيفَه: هَل لكَ أن تُحدِّثنا عن ملابسات حادثة التظاهرات يوم أمس؟ يردُّ الضيف: الحادث لا يعدو كونه تَصَدٍ من قوات الأمن لحفنة من الخارجين عن القانون، ممن انتهجوا الإرهاب دَيدَناً لهم في ترويع الآمنين، والأوضاع عادت إلى حالتها الطبيعية.
يسأل المذيع ضيفاً آخر السؤال ذاتَه فيرد: المظاهرات خَرَجَت وعادت بشكل سلمي، وبدأت وانتهت في المواعيد المضروبة لها، وكانت الشعارات المرفوعة منضبطة، إلاَّ أن قوات الأمن اعتدت عليها على حين غرة، وبدون سابق إنذار، الأمر الذي أدى إلى سقوط ضحايا كُثُر.
ثم يسأل المذيع ضيفاً ثالثاً السؤال نفسه، فيقول: إن التظاهرة مُجازة قانونياً، لكنها خَرَجَت عن مسارها السِّلمي، على الرغم من أن حرية التعبير مكفولة في البلد، والتظاهرة بالمناسبة ليست بالحجم الذي ادَّعاه المنظمون لها، حيث أن الصور قد كَشَفَت زيفهم ومزايداتهم. وكان تعامل الشرطة مع المتظاهرين هو بالمزيد من ضبط النفس والهدوء.
ثم يسأل المذيع ضيفاً رابعاً مثلما سأل مَنْ هم قبله، فيرد قائلاً: التظاهرة كانت سلمية، والمنظمون لها حَرصوا على أن يجعلوها كذلك، إلاَّ أن قيام بعض الأشخاص في ذيل التظاهرة الحاشدة، قد أوحى بأنها تظاهرة منفلتة، واستغلت القوة الأمنية هذا الوضع المريب، لأن تدخل وتستخدم القوة المفرطة غير المبرَّرة، الأمر الذي أدى إلى سقوط ضحايا.
أما الحدث كما رواه أغلب المراسلين وشهود العيان، بعيداً عن الآراء الأربعة السابقة، فهو أن تظاهرة سلمية، انطلقت بإجازة قانونية، ولِكَونِ حجمها الضخم، فقد تمددت أطرافها إلى خارج مسار التظاهر، الأمر الذي دفع ببعض المشاركين، إلى ترديد شعارات غير متفَق عليها سَلفاً، ثم رمَي رجال الأمن بالحجارة، الأمر الذي إلى حدوث اشتباكات عنيفة.
حسناً، لو جئنا إلى تصنيف الضيوف الأربعة، يُمكننا القول، بأن الأول هو يُمثل رأي السلطة، والثاني يُمثل رأي المعارضة، والثالث هو مراقب للأحداث، لكنه أسير للمنفعة الشخصية والتكسُّب من إطلاق مواقف سياسية. والرابع هو مراقبٌ حر، يرنو إلى الحقيقة. والقياس بين كل تلك الآراء، متأسِّسٌ على طبيعة الإجابات المُتَفَوَّه بها.
الأول بدأ حديثه بالتصنيف التلقائي للمتظاهرين، مريداً بذلك إلغاءهم. وكما قال الفيلسوف واللاهوتي الدنماركي سورين كيركغارد «بمجرد تصنيفي فأنت تلغيني». كما أن ذلك التصنيف قد انطوى على إباحة أمنية، للتعامل مع تدني ذلك التصنيف أخلاقياً.
الثاني تحدث عن نقاء مطلق، وعن ملائكية سلوكية، بحيث لا يترك مجالاً للشك حتى في إيماءة أحد المتظاهرين أو نواياه. هذا الإفراط في التوصيف، يجعل الأمر لا يعدو كونه أقصييْن، ليس بينهما منطقة وسطى فاصلة. وفي مثل هذا الظرف يصبح الاختيار بينهما صعباً.
الثالث: تحدّث وفق زاوية الرواية الرسمية بالمطلق، ورَفَضَ الرواية المعارِضة بالمطلق أيضاً، مستخدماً عبارات التشكيك عن بُعد في الشكل والموضوع لعملية الاحتجاج، واعتماد لغة خَبَرِيَّة «دعائية» على نمط أخبار الـ PR، وبالتالي فهي تعبير عن موقف مضاد جَلِيْ.
الرابع، تحدث بتحرُّرٍ من أي انتماء غير الانتماء إلى الحقيقة، مراعياً ظروف الفعل، ومتجاوزاً صور التبرير التي يلجأ إليها البعض. وربما يعلم الكثيرون، بأن الأيدلوجيا السياسية هي تحجيمٌ للضمير أساساً. فكلما تصلَّبت الأيدلوجيا تراخت الحقيقة، والعكس صحيح.
هنا، أودُّ أن أشير إلى مقدمة بسيطة. فقد نَقَلَ أستاذنا بالجامعة، رأياً للأديب الكبير، ميخائيل نُعَيْمَة، يقول فيه ما يفيد، أن اللغة العربية قابلةٌ للتولُّد في مجال الاشتقاقات، كلما تقادم الزمن، وتدافعت الأحداث. فاللغة تتطوَّر بتطور بيئتها التي هي وليدتها بالأساس. ورغم أن جدلاً قد رافق هذا الرأي، إلاَّ أنه رأي علمي وجيه كما أعتقد.
من هذا المنطلق، فإن مصطلح الحقيقة، ورغم أنه أحد أهم مباحث نظريات الفلسفة والمعرفة، إلاَّ أنه كمفهوم مُجرَّد، قابل هو الآخر للتطوُّر أو التكيُّف. بمعنى، أن نسبية وقوع الأحداث، تختلف في درجاتها بين حاضرنا هذه الأيام، وبين أحداث ألف سنة خَلَت.
فَحَدَث كاحتلال أرض فلسطين، الذي وَصَلَ إلى أهلنا في المغرب بعد شهور، كان يُمكن أن يصلهم في عشرين دقيقة من وقوعه، لو أنه حَدَثَ في أيامنا. كما أن نسبة التدوين للحدث، تختلف عن سابقتها، والتي كانت كثيراً من الأحيان، ما تبقى في الصدور فقط.
ما وددت أن أقوله، أن هذا الزمن، الذي نحيا أيامه وساعاته، ينطوي على نسبة أعلى من الحقيقة مقارنة بالأزمان الماضية، التي كانت فيها الأمور، مشطورةً ما بين الدراية والرواية، ثم إلى إشكاليَّة الركون إلى أيِّ واحدة منهما، كونهما متروكتين للملاكات والضوابط الذاتية، لأصحاب الرواية والدراية، التي تصبح لاحقاً رواية مكتوبة فقط.
وأمام هذا المشهد الجديد، المليء بسبل تدعيم الحقائق والأحداث، فإن من البلاهة أن يتنمَّر علينا أحدٌ بِهَوَسِ النفي التام، والشيطنة المطلقة، أو حتى بالطهرانية النقيَّة، لأهداف يرومونها على حساب الحقيقة. فالفضاء مفتوح، والأقلام ملآى بالأحبار، والعيون مفتوحة، وخطوط الاتصال لا تنقطع، والصورة جوَّالة تَتْرَا علينا من كُل حَدبٍ وصَوب.
نعم، التحريف وارد، لكن وروده صعب بوجود الفطرة الإنسانية، وتسجيل التاريخ بالصوت والصورة، والأهم، تصوير السياقات التي تأتي فيهما تلك الصورة، ويأتي فيهما ذلك الصوت. ربما يستطيع أحدٌ أن يُمَنتِجَ الأشياء، عُنوةً، لكنه بالتأكيد لن يستطيع أن يصنع تلك الأشياء، بغير ما هي عليه، وبالتالي فهم كمن يريد أن يحجب الشمس بغربال.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3885 - الجمعة 26 أبريل 2013م الموافق 15 جمادى الآخرة 1434هـ
سؤال لكاتبنا الكريم
كيف عرفت أن الاول و الثاني و الثالث بعيدون عن الواقع و أنهم ذو نظرة ضيقة لا تتسع للطرف الآخر ، و أن الرابع هو المحق بينهم ؟ . . . لم لا نحتمل أن قوات الأمن تصدت لإرهابيين فعلا كما يقول الأول ؟ . . . و في الوقت نفسه لم لا نحتمل أن المظاهرة سلمية و أن قوات الأمن هاجمتها ؟ ألا يجوز ذلك ؟ . . . . سؤال آخر : الرابع قال :(( واستغلت القوة الأمنية هذا الوضع المريب، لأن تدخل وتستخدم القوة المفرطة غير المبرَّرة، )) ألا يعتبر هذ خروجا عن الحيادية ؟ كيف يكون متحررا من أي انتماء وهو يتهم في النوايا ؟
مالك وعبد الله
عمق موضوع - وسهولة ممزوجة وعمق معنى -شفافية ووضوح غبر ممزوج بنفاق-يحاكيان لسان الحقيقة - البعد عن البهرجة -الانقضاض على الحقيقة والواقع بدون تلميع وتزييف-اهنيء الوسط بكما وبكل كتاب الحدث والصورة
حياة مصطنعة
دايما ما كو شيء والجو صحو والناس تتمشى والرواتب عال العال والقروض ما لها أثر