مازالت الدول العربية تخشى سماع الحقيقة تحت مسميات مختلفة: «قانون الإعلام»، «قانون الإعلام الموحد»، «قانون المرئي والمسموع»... وغيرها، ولا يزال وهْم الوحدة الوطنية بالنسبة للأنظمة مرتبطاً بأقوال الإعلام والإعلاميين، لا بسلوك الدولة على الإطلاق، أو بقيم العدالة التي يجب أن تمارسها.
إن قوانين الإعلام، التي تهدف في الجوهر إلى منع المجروح من الأنين والضعيف من تبيان نقاط ضعفه والخائف من التعبير عن خوفه، تؤدي إلى مزيد من التفكك، فعندما تغلق الحكومة باب الإعلام الحر والمفتوح وتستبدله بالعقوبات والقوانين الصارمة، فإنها تفشل في تشخيص واقع مجتمعها، ما يفقدها أهم وسائل الاستقرار البعيد الأمد.
قول الحقيقة للنظام السياسي هو الأصعب في الدول التي تعاني الضعفَ في استيعاب مكانة الإعلام المفتوح، فأحد أسباب الهزائم العربية في حروب عدة ومعارك كثيرة مرتبط بعدم القدرة على قول الحقيقة انطلاقاً من أن الحقيقة تؤثر على الوحدة الوطنية، ولهذا يقع التخاذل في معرفة النفس والذات ونقدها، فالإعلام كالمرآة، يعكس واقعنا. إن ما حصل في حرب 1967، وفي الغزو العراقي للكويت، وفي الحرب العراقية-الإيرانية وفي الثورات العربية مع أنظمة مبارك والقدافي وبن علي وعلي صالح وبشار الأسد، ارتبط في الجوهر بسياسة منع الحريات على نطاق واسع.
إن الإعلام بطبعه متسائل، ولهذا مطلوبٌ من السلطة أن ترد على تهم الديكتاتورية بسياسة المرونة، لا بالنفي الإعلامي، وعلى السلطة العربية في الوقت عينه، أن ترد على تهم التفرد بسياسة الشراكة، وتهم سرقة المال العام بشفافية ولجان تحقيق(!!؟) كما أن على السلطة العربية أن ترد على نقدها والسخرية منها بالعمل الجاد المسئول.
وعندما ترفض الدولة مبدأ حرية التشكيك والنقد حتى لو كانا غير جارحَيْن، فعليها حينئذٍ ألاّ تغضب من ناقديها، فالسلطة تملك وسائل القوة وأدوات صنع القرار، وتبقى لدى المجتمع -الذي لا يملك القوة التي تملكها الدولة- أداةُ التعبير، وهي واحدةٌ من الأدوات المحدودة، لكنها مع رفض الدولة مبدأ النقد والتشكيك في سلوكياتها من خلال فرْضها ما يعرف بالموانع الإعلامية والخطوط الحمراء، سوف تتحوّل حتماً إعلاماً موازياً لإعلام السلطة.
إن مواجهة الكلمة بالقمع والسجن يحوّل التعبير النقدي معركةَ استنزاف للدولة. والشعوب والأفراد بتنوع طرق تعبيرهم، ماضون في التعبير عن أنفسهم مع قانون إعلام ومن دونه، فبعض أروع الروايات برزت في زمن القمع في أوروبا الشرقية، وبعض أفضل أنواع الإبداع والحركات السياسية برزت في ظلّ مقاومة قوانين الحد من التعبير. الناس تتناقل الحقيقة، وفي حالة المنع الإعلامي تزداد تلك الحقيقة انتشاراً، حتى لو لم تكن تعكس كل الواقع، بل جانباً منه، وتكتسب مزيداً من المصداقية.
الواقع العربي حول الحريات يؤكد أننا مقبلون على صدام كبير حول مفاهيم التعبير والحرية، فما نشاهده اليوم في الواقع العربي دليلٌ على أن مفاهيم الحرية الجديدة تكتسح الشارع وتكسب الجولات في عقول الناس وقلوبهم، وأن خطوط المواجهة بين من يمتلك السلطة وأدوات القمع وبين من يمتلك شجاعة قول الحقيقة بدأت تميل لصالح أنصار التعبير، المطالبين بمزيد من الحريات.
لقد أصبحت الشعوب العربية اليوم في المرحلة المابعد إعلامية، كما تؤكد ظواهر إعلامية عديدة في المجتمعات العربية، آخرها ظاهرة باسم يوسف، الإعلامي المصري المبدع. ووسائل التواصل الاجتماعي الجديدة تؤكد أننا مقبلون على إعلام سخرية ونقد، ومقبلون في الوقت عينه على انفتاح أكبر على قول الحقيقة.
إن الجيل الجديد لن يقبل باستمرار القيود على حرياته، وذلك لأنه يتقن فن التعبير ويتمسك به، كما أنه سئم الوسائل الإعلامية الموجَّهة والركيكة التي تخاطب الأنظمة عبرَها شعوبَها. لهذا يجب على الأنظمة والحكومات عند التعامل مع حرية التعبير أن تتحلى بالمقدرة على تجاوز المشكلات التي تسببها حالات القمع الإعلامي. عليها أساساً أن تتقدم في حسها الإعلامي وتتصالح مع الحقيقة، من خلال إلغاء قوانين الجزاء الخاصة بالتعبير قولاً وكتابة، صوتاً وصورة، وهذا بدوره سيحيل الأمر للرقابة المجتمعية، التي تمثل الحصن الأهم. وعندما يقع هذا، ستتطوّر اللغة والتعبير الحر في المجتمع، وسيكون الحَكَم الحقيقي في النهاية هو القارئ والمشاهد، وليس الحكومة، التي لها مصلحة في عدم إخفاء أخطائها واحتكار وسائل التعبير، التي شملت حتى خطب الجمعة في المساجد. لقد أصبح الرأي العام قوةً كبيرةً، وقادرةً على ضبط وتيرة النقد من التحوّل إلى خطاب كراهية.
وعلى الحكومات العربية أن تنتقل من تضييقها المبالغ فيه على حرية الرأي وخوفها المضخم من قول الحقيقة، إلى التركيز المسئول على أسباب التململ والضيق في المجتمع. ليس مهماً ماذا قال هذا المعارض وذاك المسرحي... بقدر لماذا قال ما قال؟ وما الأسباب التي دفعته لإعلان موقف كهذا؟ إن السؤال الأهم: كم عدد الذين يؤيّدون ما قاله هذا المعارض وذاك الإعلامي، وهذه المسرحية وتلك القصيدة؟ ولماذا؟
لا يجب أن ندين هذا الناقد أو ذاك الكاتب، بل أن نتساءل: أين أخفقت الحكومة في سياساتها وممارساتها وعدالتها؟ إن انتقال الحكومات من التركيز على التعبير بصفته صورةً للمشكلة إلى التركيز على الأسباب الحقيقية للمشكلة، سيوصلنا إلى نتائج أفضل في تصويب السياسة الحكومية وتصحيح الاتجاه.
إن دولة القانون لا يمكن أن تستقر من دون دولة العدالة والمساواة أمام القانون، فالقانون الذي يميّز بين الناس ويسعى لتقليص دور الشعب ورقابته، سيثير ردود فعل، وسيرفع من درجة الشك والتشكيك بنوايا الحكومة، فدولة القوانين يجب أن تخضع أولاً لمبادئ الديمقراطية وللمساءلة، كما أن تعيد النظر في قوانينها بناءً على معرفةٍ ودرايةٍ باتجاهات الرأي العام. إن الدول التي لا تراجع قوانينها بينما تزداد صرامتها مع أصحاب الرأي، لا تريد فعلاً سوى الاستماع لنفسها، وهي بسياستها هذه تريد نفي الحقيقة وترك الجوهر بلا علاج.
لن تعرف الحكومة الحقيقة إلا إذا سمحت للأضعف والأقل مالاً وتمثيلاً بقول رأيه بحرية وصراحة من دون خوف أو تخوين. في نهاية الأمر، الولاء في المجتمعات التي تتشكّل اليوم أصبح أكثر ارتباطاً بقيم الحرية والعدالة.
إقرأ أيضا لـ "شفيق الغبرا"العدد 3884 - الخميس 25 أبريل 2013م الموافق 14 جمادى الآخرة 1434هـ
تطور المجتمع العربي أساسه احترام الرأي وحرية التعبير
في أيام الدولة العثمانية كان مجرد التعبير عن الرأي يؤدي إلى تعذيب وقتل الفرد بالخازوق وغيرها من شتى الطرق اللا إنسانية. نشروا المخبرين في كل مكان لمنع حرية التعبير. اليوم من الصعب على أية دولة إخفاء الحقيقة مهما فعلوا من سن قوانين مجحفة. حاجز الخوف من العقاب لن يكون رادعا،لأن الضغط لن يؤدي إلا إلى الانفجار وحينها جنت على نفسها براقش.
احسنت يادكتور نعم الولاء في المجتمعات التى تتشكل اليوم اصبح اكثر ارتباطاٌ بقيم الحرية والعدالة
وان استطاعة الحكومات اخفاء الحقيقة ولا تريد ان يعرف الشعب الحقيقة عنها هي في الحقيقة كانت تمارس اعمال اللصوصية وسرقة ثروة الشعب والتسلط عليه وتمارس الفساد المالي والاداري واعمال البلطجة والاجرام فكيف لا تخفي الحقيقة عن الشعب وفيها ادانتها وتعريتها بل هي بما تملك من المال واذوات االبطش والتنكيل والاقصاء تستخذمها وتسخرها لحجب الحقيقة عن الشعب والتخلص من كل من يتجراء بقولها ولكن لم يعد اليوم اخفاء هذه الحقيقة عن الشعوب التى كسرت حاجز الخوف وهي فى طريفها لازالت هذه الحكومات الفاسدة
للحقيقة ثمن
كلامك صحيح استاذي العزيز بشريطة ان تكون قابلية واستعداد للشيء نطرح الافكار والمشاريع لأنهُ قابل لها,
ولكن حينما يكون الشيء (كالارض البائرة الفاسدة) لا قابيلة لها على النمو والحرث والزراعة والحياة والاستمرار, ولك أن تفكر فيما لو عمل احدهم بسقي هذه الارض وغرس الاشجار بلا طائلة غير استنزاف للأموال ,هذا ميجري في الدول