يجاهر بعض المسئولين العرب بأن المرحلة الحالية هي الأفضل لتحقيق ما يسمّونه «سلاما» مع كيان العدوّ، آخذين بعين الاعتبار لوضعية السقوط والانهزام التي جعلت الأنظمة تنظر إلى حكومة العدو اليمينية المتطرفة كخشبة خلاص، مع أن رئيس هذه الحكومة كان حريصا إلى أبعد الحدود عندما قام بتوصيف الدولة الفلسطينية التي يتطلّع لتقديمها للأنظمة كعربون وفاء لخضوعها وخنوعها، وهي التي وصفها كاتب صهيوني بأنها مجرد «منطقة صناعية».
وهكذا، تتوضّح شيئا فشيئا رؤية الأنظمة حيال ما يسمّونه «عملية السلام»، فـ «إسرائيل» تقوم في هذه الأيام بأوسع عملية تهويد للقدس المحتلة، وقد باشرت قوات الاحتلال بطرح مناقصات لبيع أملاك اللاجئين الفلسطينيين داخل فلسطين العام 1948... كما أن عملية الاستيطان تجري بوتيرة متسارعة لتغيير صورة القدس والضفة الغربية وتعديلها تماما... ومن اللافت أن وزير حرب العدوّ جاء إلى فلسطين من مصر ليعطي ترخيصا ببناء 300 وحدة سكنية استيطانية جديدة. ومع ذلك، فإن العرب على مستوى الكثير من الأنظمة، يتطلّعون إلى السلام من الزاوية التي تنتهي فيها القضية الفلسطينية، ويُحكم فيها العدو قبضته الاستيطانية على بقية الأرض المحتلة في العام 67، فيحقق ما يتطلّع إليه حول فكرة الدولة اليهودية التي حدّث «هرتزل» اليهود عنها فقال لهم: «إذا أردتم فإنها لن تكون أسطورة».
ولهذا، فإننا عندما نستمع لوزير حرب العدوّ يتحدث من إحدى العواصم العربية عن العمل لتحقيق «تسوية سلمية إقليمية شاملة يمكن في إطارها إدارة محادثات مع الفلسطينيين، ومع كلٍ من سورية ولبنان»، وعندما يتحدث الإعلام الصهيوني عن نقاط عشرة لإصلاح ذات البين بين حركة حماس والسلطة الفلسطينية، يتم على أساسها إجراء انتخابات فلسطينية، وتُفتح بعدها المعابر باتجاه غزة... فإن علينا أن نعرف أن المسألة لا تنطلق من وحي الخوف على الفلسطينيين، أو من الحرص على الارتقاء بوضعهم الذي وصل إلى مستوى الكارثة، بل من زاوية استثمار أوضاعهم الصعبة، وضمّها إلى الوضع العربي المتعَب والمرهَق على مستوى الأنظمة، والذي عبّر عنه بيان وزراء الخارجية العرب في اجتماعهم الأخير، وتأكيدهم الاستعداد «لفعل كل ما يلزم» في سبيل دعم التحرك الأميركي في المنطقة، لتبرز إلينا التسوية الأميركية الإسرائيلية بحلّتها الجديدة، فيذهب اللاجئون إلى أصقاع العالم، ويوطَّن الآخرون في البلدان العربية المجاورة لفلسطين، وتدخل «إسرائيل» إلى المفاصل العربية والإسلامية كلها، ويصفّق العالم المتواطئ لـ «الإنجاز التاريخي» الذي تحققت فيه أحلام «هرتزل» وتطلّعات «بن غوريون»، ونال فيه العرب المزيد من الأوسمة وجوائز نوبل على أنقاض هذا الصدّيق أو هذا الذبيح الذي هو الشعب الفلسطيني.
إننا نحذّر من أن كل ما يجري في الكواليس، إضافة إلى الحركة المكوكية للمبعوثين الأميركيين في المنطقة، إنما هو لإخماد جذوة القضية الفلسطينية بالكامل، وللضحك على عقول السذّج في العالم العربي والإسلامي، ولشرعنة الاحتلال وتقديم كامل التسهيلات له، تحت لافتة «السلام»... وصولا إلى تطويق حركات المقاومة، وإطفاء شعلة حركات التحرر، وتحقيق النهاية المأساوية الكبرى لأنصع قضية وأبرز حالة من حالات المظلومية التي عاش العالم مآسيها فصولا منذ ما يزيد على القرن من الزمن، أيّ منذ أن قال هرتزل في العام 1897 في «بازل» في سويسرا: «في بازل أسست الدولة الصهيونية، وسوف ترى هذه الدولة النور بعد خمسين سنة على وجه التأكيد».
إننا ندعو الشعوب العربية والإسلامية التي حاصروها بحروب الفتنة، وأرهقوا كاهلها بالاحتلال والفوضى الأمنية والحروب الأهلية، من أفغانستان، إلى باكستان، إلى الصومال والسودان والعراق... ندعوها - مع شعورنا بحجم الضغوط التي تنهال عليها - للوقوف وقفة وحدوية حاسمة، واستعادة لحمتها الداخلية من خلال الالتفاف حول قضيتها المركزية التي تشكّل فلسطين والقدس عنوانا أساسيا فيها، والسعي على مختلف المستويات لمنع هذا العالم الظالم والمستكبر من أن يُحكم سيطرته على المنطقة بالكامل، من خلال حصوله على التوقيع العربي والإسلامي القاضي بمنح فلسطين التاريخية، فلسطين العربية والإسلامية، لليهود المحتلّين.
وإنه لمن دواعي الأسى والبؤس أن تبلغ الهجمة الاستكبارية على الأمة وفلسطين هذا المبلغ، فيما تواصل آلة الدمار الذاتي حركتها في الصومال، فيغرق البلد في بحر من الدماء، ويطل على مرحلة جديدة من مراحل التدخّل الاستكباري في أوضاعه الداخلية... وفيما تواصل آلة الحقد التكفيرية عملها في العراق، فتنفذ إلى بلدة تركمانية وادعة في محافظة كركوك، من خلال شاحنة محمّلة بأكثر من طن من المتفجّرات، فتقتل وتجرح أكثر من 300 شخص من المستضعفين الفقراء الذين فُجعوا بأطفالهم ونسائهم وشيوخهم وشبابهم، في عملية قتل وإبادة جماعية تشبه في بشاعتها ووحشيتها عمليات الإبادة التي يمارسها العدو الإسرائيلي في فلسطين المحتلة وقطاع غزة، وعمليات القتل الجماعي للفلاحين والعائلات المستضعفة في أفغانستان من قِبَل الأميركيين.
ومع أن هذا الحقد قد عبّر عن نفسه في أكثر من موقع في العراق في الآونة الأخيرة، وخصوصا في مدينة الصدر التي فُجعت بعشرات القتلى والجرحى من أبنائها في جريمة التفجير الأخيرة، إلا أنه أراد من خلال جريمة كركوك الدخول على الخط العرقي من جهة، والمذهبي من جهة ثانية، لإثارة المزيد من نقاط الضعف في الداخل العراقي لحساب المحتل الأميركي الذي تسعى مثل هذه الجرائم لتوفير أرضية جديدة له تجعله يصر على عدم الخروج من المدن العراقية في هذه المرحلة.
ونحن في الوقت الذي نعرف فيه مدى استفادة الاحتلال من هذه الجرائم، نستغرب عدم صدور بيانات الاستنكار والإدانة من العلماء المسلمين، وخصوصا من المواقع الوحدوية الحريصة على وحدة المسلمين، لأن ما جرى يمثل أبشع صورة من صور القتل الجماعي والإبادة للأطفال والمدنيين مما توعد الإسلام فاعله بالنار وبئس القرار.
أما إيران التي أوشكت أن تخرج من دائرة امتحان داخلي تسببت فيه حدّة المنافسة الانتخابية، وحرية الحركة التي وفّرها النظام الإسلامي، بشيء من الاهتزاز الداخلي، فقد أصبحت إيران هذه، في بعض المشاهد التي التقطها الإعلام الغربي، وبعض الإعلام العربي، من داخل الشارع الإيراني وعمل على بثها ونشرها بشكل متواصل، مثارا للجدل والتحليلات، وموقعا تُذرف عليه الدموع الغربية التي يعلن أصحابها عن قلقهم حيال ما جرى في الشارع الإيراني، وحيال التجربة الشعبية والديمقراطية فيه، ومن بين هؤلاء من يدعم أكثر الدكتاتوريات ظلما في المنطقة، ومع كونهم لم يكلّفوا أنفسهم التصريح بكلمة استنكار واحدة حيال المجازر التي ارتكبها العدوّ في غزة، ناهيك عن عملية التعمية الكبيرة التي مارسها الإعلام الغربي في العديد من مؤسساته وأجهزته الكبرى في مسألة المحرقة الإسرائيلية للفلسطينيين في غزة.
إننا نريد للشعب الإيراني، الذي عرف من خلال هذه التجربة مدى توق العالم المستكبر لتدمير ثورته، وإسقاط دولته، مع أن هذا المخاض كلّه كان يدور في نطاق النظام وفي قلب الثورة، نريد لهذا الشعب أن يعمل على عودة اللحمة إلى خطوطه الشعبية والسياسية، ولينطلق في عملية تضميد الجراح من خلال تحسسه لخطورة الهجمة الخارجية عليه، والتي عبّر عنها رئيس كيان العدوّ أوضح تعبير عندما قال: «يصعب معرفة من سيزول أولا في إيران، اليورانيوم المخصّب أو النظام البائس، والأمل هو أن يكون النظام هو الذي سيزول»...
وينبغي للشعب الإيراني كلّه أن يرد على هذا المجرم البائس ليقول له: إن الذي يزول هو الشرّ، وأن الذي يبقى هو الخير والحقيقة، و «إسرائيل» هي الشرّ بأبشع صوره، وإيران هي الخير، وهي الحقيقة في تجاربها الحيّة والعلمية، وفي وقفتها بوجه الاستكبار ودعمها لحركات المقاومة والتحرر، وهي التي ستبقى ويزول العدوّ بإذن الله.
أما لبنان الذي يطل على المنطقة من بوابة الديمقراطية العجائبية، التي استولدت إحدى تجاربها الصارخة في النموذج الانتخابي الأخير، والذي أعاد الحميّة والعصبية سالمة غانمة إلى قواعدها المذهبية والحزبية، فقد دخل في لعبة التقاسم الإقليمي والدولي من جديد، في التسميات والمحاصصات والأرقام التي يتداولها الخارج ويستحسن الداخل تمريرها تحت عناوين وطنية تلبس لبوس المرحلة، وتتدثّر بعباءتها المطرّزة بالخيوط الدولية والإقليمية، والموشّاة بحرير الاعتدال والممانعة العربية، الأمر الذي يضفي طابعا مميّزا لبلد اكتوى بنيران الخلافات العربية - العربية، والعربية - الإسلامية، إضافة إلى الخلافات الإقليمية والدولية، وقد يكتوي بدفء المصالحات أو التفاهمات التي غالبا ما تبصر النور على بساط الراحة الدولي الذي يريد للبنان أن يصوغ مشاريعه الداخلية، على مستوى المجلس والحكومة وغيرهما، من وحي الصياغة العامة في المنطقة، والممهورة بتواقيع دولية محسوبة.
فهنيئا للبنانيين تجاربهم الصاخبة في الانتخابات، والسجالات التي ترتفع وتيرتها وتنخفض تبعا للنصائح القادمة من المنطقة أو من وراء البحار، وهنيئا لهم في كل هذه التفاهمات التي تُرسم خطوطها التفصيلية في الخارج، ويتم تظهيرها في الداخل، وعسى أن تشفع الأوضاع الجديدة لهم بتطلّعات عربية وإسلامية ترفع عن كاهلهم ضغط المديونية بملياراتها الخمسين، إذا كان قد بقي في جعبة العرب ما يدفعونه بعد البلايين التي أكلتها الأزمة الاقتصادية العالمية، وصفقات الأسلحة الحديثة التي لا يؤمّل أن تُستعمل في تحرير الأرض والإنسان.
وأخيرا، إننا مجددا أمام ظاهرة التخلّف التي تحوّلت الى جريمة تفتك بأمن الناس وراحتهم وأرواحهم، من خلال كل هذه الهستيريا وهذا الجنون الذي يهز الشوارع ويقتحم البيوت، في حالات إطلاق الرصاص عند كل مناسبة يُنتخب فيها مسئول أو يتحدث فيها زعيم سياسي أو طائفي.
لقد حذّرنا في السابق من أن ظاهرة التخلّف هذه لا تدخل في نطاق الحرمة الشرعية فحسب، بل تمثل جريمة قتل بدم بارد، وهو ما يستدعي التحرك السريع من الدولة والمسئولين، ومن كل من يملك أن يمنع هؤلاء من التمادي في جريمتهم وقتلهم للناس وترويعهم للأطفال، واعتدائهم على السلم الأهلي وعلى الأمن الاجتماعي وعلى النظام العام، مما لا يمكن السكوت عليه بحال من الأحوال، أو القبول بتكراره، أو الركون إلى نتائجه، لأن المطلوب هو معاقبة هؤلاء المرتكبين لهذه الاعتداءات، والتحرك السياسي والشعبي والقانوني لمنع أية حالة مماثلة في المستقبل.
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 2486 - السبت 27 يونيو 2009م الموافق 04 رجب 1430هـ