العدد 3883 - الأربعاء 24 أبريل 2013م الموافق 13 جمادى الآخرة 1434هـ

جغرافيات في العالم يتبخّر فيها كل شيء

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

هل للطقس دور في تبخّر كل شيء؟ نحن تحت رحمة جغرافية يسيل ويتبخّر فيها حتى الحديد. البشر يسيلون عرقاً وغصّة أيضاً. ثمة جغرافيات بالتأكيد يمكن معاينتها على أطلس العالم، يتبخّر فيها كل شيء؛ باستثناء إرادة وخيار للإنسان لو أخضعتها لألف درجة مئوية ستعيد تشكيل وترتيب أثرها.

الجغرافيات التي أعني تتبخّر فيها الوعود من الساسة ويتكرّر الأمر وكأنه لعبة مونوبولي. تتبخّر فيها الوعود بالإصلاح الذي يمكن معاينته كخراب محض، وتتبخّر الوعود بالعدالة التي تبرز حيفاً وجوْراً وقمعاً، وتتبخّر الوعود بالسعادة التي تطل برأسها شقاء من الشارع إلى غُرف النوم، وتتبخّر الوعود بغد أجمل؛ لتتحول الحياة إلى آخر صرعة وموديل من الكوابيس، وتتبخّر الوعود بمزيد من الأمل ليهيمن اليأس على تفاصيل الناس.

المعرفة هي الأخرى تتبخّر. يتبخّر ضمير المعرفة، جدواه، دوره، أثره. حين يحدث ذلك لا تعود معرفة. ربما تكون خزّاناً أو مخزناً يحتوي المهمل والذي لا قيمة له وما تم استهلاكه ودخل في خريف جدواه. لا تكون معرفة تلك التي تتآمر على الحق في تفاصيل الحياة والناس. تتبخّر المعرفة حين يتم استكتابها من دواوين السُلَط، ويتم إخضاعها للأوامر والامتثال، ولو خالف ذلك حركة المعرفة ومنهجها ومنطقها ووسائل البلوغ إليها.

الشاعر يُصبح ببغاء ويُدجّن ويذهب إلى النص بحسب ما هو مرسوم له. ذلك تبخّر. القاص يستفز البشر من حوله بتأريخ ورصد تفاهات السُلْط وكذبها الرسمي. ذلك تبخّر. الروائي سيكون أكثر قدرة على الإسهاب والإطناب في هذا الصدد، وتبخّره مضاعف؛ بالطبع لن يكون أكثر من شاعر نذل يجعل من التراب سماء ومن السماء تراباً!

ولا تتبخّر المعرفة إلا بانتفاء الوعي بها والحاجة إليها. تلك جغرافية معنية بذلك الدور بامتياز! ومن أهم مصادر تبخّر المعرفة والاستهزاء بها تصدّر الذين لا قيمة لهم ولا دور ولا صيت في المعرفة مشهد تقديمها والتعريف بها والتحدّث باسمها. أفرزت التحولات في العالم العربي ظواهر تدعو إلى السخرية والحمد في الوقت نفسه. ظواهر طحالب تطلع علينا كل صباح تحت مسمى كتّاب أعمدة. بعضهم امتهن بيع الضمير وتحوّل إلى منظّر استراتيجي، بعضهم كانوا نواطير ولا عيب في ذلك؛ لكن العيب أن تدّعي معرفتك بالاستراتيجيا العسكرية. كونك ناطوراً لا يمنحك الحق في إقحام أنفك وجهلك في ما تحتاج إلى الوصول إليه لسنوات ضوئية وقد لا تصل!

أفرزت التحولات أيضاً هواة سهر ومسطولين ومدمنين على ارتياد «الحوَط» لنفاجأ بتحوّلهم إلى منظّرين في ملف الشمال والجنوب! ومشروعات التقسيم وضرورة إذابة الأقليات ليس في التكوينات بل حتى في حامض الأسيد!

علينا أن ندرك أن نمطين يتحركان وفق أمرين: شهوة الكسب، وآخر وفق من يرى الأمل رأي العين. الكسب لا يُعوّل عليه. الأمل هو التعويل وأساس أن يكسر الإنسان الخوف من المنظومات التي تعيق حقه في بلوغ وقطف ثمار ذلك التعويل: الأمل. الأولى تتبخّر مع تحولات وسنن يومية وتاريخية. الثانية تتحرك وفق سنن المغزى من الخلق. لم يخلق العالم لييأس. خلق ليأمل بوعي ومسئولية وإدراك ودور يطلع به.

بعدها ليس من الصدمة أن يكون التبخّر هو الحراك المعهود والذي يُمكن معاينته ورصْده. تبخّر يطول الشكل والمعنى الذي من المفترض أن تكون عليه الحياة. تبخّر يطول احتواء كل ما يدل على العبقرية تهافتاً على «حمورية» بحسب الطلب. تبخّر يطول زجّ الناس في غيب وغيبوبة السُلط وربْط ذلك بغيب الله.

قارئ ردئ يصبح معلّماً عبر مساحة لا تختلف عن شقة مفروشة ليس بريئاً ما يدور فيها! بائع فجْل، وليس في ذلك عيباً، يعلّم الناس طرق الخروج الاحتياطية في حال الكوارث، فيما هو جزء من الكارثة! مهرّج يُفرد له برنامج أسبوعي ليعبّر فيه عن مشكلاته في عدم قدرته على الانسجام مع الإنسان في حاله الصحيحة. يريد أن يتعامل مع إنسان متبخّر كما هو!

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 3883 - الأربعاء 24 أبريل 2013م الموافق 13 جمادى الآخرة 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 2:33 ص

      الجمود

      الاحداث الذي يصيب الانسان وبالاخص احداث الوطن اخرجنا من الجمود الجمود الفكري والعاطفي والسياسي وحتى نعرف اين نقف وماذا نريد ويطهر لنا الغث والثمين والحق والباطل بوضوح.....ودام قلمك.

اقرأ ايضاً