ليس صحيحاً أن تكون النظم السياسية على خطأ «دائماً». وليس صحيحاً أن تكون الثورات على صواب «دائماً». إذًا، ليس صواباً أن تكون التجارب السياسية (في شِقيْها الأوليغارشي الحاكم، والشعبي المنتفض ضد السلطة) على خطأ/ صواب «دائماً».
وليس صحيحاً أن يكون الخطأ ذاته مذموماً «دائماً». وفي الوقت نفسه، ليس من الصحيح أن يكون الصواب ذاته محموداً «دائماً». إذًا، فليس من الصواب أن يكون السلوك البشري (القائم على التدافع الطبيعي المتعدد الأوجُه) مذمومًا/ محمودًا في كلِّ الأحوال.
ما يعنينا من كل تلك الأشكال، هي كلمة «دائمًا» في الحالات المذكورة. فإذا كان هناك نَفيٌ لديمومة الشيء، وانتظامه على حال واحد، فهذا يعني أننا أمام أشياء «نسبية» وليست «مطلقة». وإذا ما كانت الأشياء على هذه «النسبيَّة» فهي تحتمل الشيء وضده.
هذا المدخل جيِّدٌ لأن نتوسَّع في أحوالنا بشيء من الصراحة. فالنظم السياسية (بما فيها المتسلِّطَة) انطوت على تجارب ناجحة (بل ولافِتَة) في بعض الأحيان. ولنا في تجربة الطغيان المستنير خلال حكم الرجعية الأوروبية والقيصرية، مثالٌ حي لأن نشير إليه.
كذلك، فقد انزلقت الثورات في بعض الأحيان، وتورَّطت في تجارب فاشلة (بل ومُهلِكَة) أيضًا. ولنا في تجربة ماكسميليان روبسبيير في فرنسا مثال حي لكي نشير إليه ضمن هذا السياق. بل وفي كلِّ التجارب الأوروبية التي رأت أن الثورات «تكسب حروبًا مستحيلة».
أقول هذا الحديث لكي لا نصاب بالهَوَسِ الثوري المنفلِت من عقاله، والجانِح باتجاه الجنون. الهَوَس الذي لا يرى في الفعل الثوري إلاَّ الصواب والنقاء والطهرانية المطلقة. ولا يرى في النظم السياسية التي يُناهضها إلاَّ الخطأ والشَّر، والنَّجَس(يَّة) «المطلقة».
نعم، هناك أنظمة سياسية تسلطية نجحت في ألا تتمتع بوحدة الرأي في النظرة إلى الخطأ، ولا تقبل به. وهناك ثورات شعبية فشلت في أن تتمتع بوحدة الرأي في النظرة إلى الخطأ، أو على الأقل في إنشاء رأي عام ثوري معتدل، يُنقِّيها من الزَّلل ويحاربه. وعندما تقع هناك مساحة مشتركة من الخطأ والصواب، فإن اللازم يقتضي أن نراها كما هي.
إذا لم تقتنع الأنظمة، أن في الثورات هناك أهل صواب وأهل خطأ، فلن تقدر على التفريق بينهما، وستجعلهم في سَلَّة واحدة، وبالتالي لن تكون هناك حلول صحيحة للأزمات السياسية، مادامت هذه الدكتاتورية الشاملة هي المتحكِّمة في المزاج السياسي.
وإذا لم تقتنع الثورات، أن في الأنظمة هناك مَنْ له رأيٌ مختلف في النظرة إلى الخطأ، وتجعلهم في قيمة واحدة، فلن تكون إلاَّ في موقع النظرة المُشَيطِنَة لكامل المنتَج السياسي الذي قد يتولَّد عن تلك الأنظمة، وبالتالي عَدَمِيَّة النظرة وسوداويتها بالمرة.
الدافع إلى هذا الكلام هو ضرورة البوح بما يجب أن يُقال، ثم فصل الخيارات السياسية بشكل صحيح. بمعنى آخر، أن تنفصل الآراء غير المتوحِّدة في النظرة إلى المشاكل عند الأنظمة السياسية، بشكل جَلِيْ وواضح، لكي تتأسس على رأيها حالة واضحة.
وعند حركات التغيير الثورية، يجب أن تنفصل الآراء/ الأفعال الواقعية المتوخِّيَة للصواب، عن تلك الآراء/ الأفعال الحالِمَة والمثالية، والموغِلَة في الخطأ، وذلك من أجل إيجاد حالة سياسية قادرة على التقدم والتأخُّر طبقًا للظروف، لبلورة حلول واقعية وناضجة.
إن هذا الحديث مهم لإزاحة التطرف عن الحياة السياسية. التطرف الذي يُريد أن يُنتِجَ نصرًا بأيِّ كلفة، ولو على بحر من الدم، وكومة من الأغلال. والحقيقة، أنه لا يعلم (أي التطرف) أن «كثيرًا من الانتصارات تكون أسوأ من الهزيمة» كما قالت ماي آن إيفانس. وأن أليَن الأشياء في العالم تصدم أصلبها وتتغلب عليه كما قال الفيلسوف لاوتسي.
فمنتجات التطرف ليست ذات جَودَة. والسبب، هي أنها غير معنية إلاَّ بالنتائج وليس بالمسار الذي يُفضِي بها إلى تلك النتائج. وعندما يكون منهجها هو هذا، فهي كالحصان، المغمَض العين، والذي لا يسير إلاَّ إلى الأمام، وبوخزٍ من مُمَتَطِيه دون أيّ دراية.
والمشكلة الأكثر بلاءً، هي أن التطرف، يؤمن على طول الخط بكلمة «دائمًا» وتوظيفها في الاعتداد بالسلوك السياسي الذي يختاره، وبالتالي تنتج بداخله نرجسية سياسية، وباعتقاد كُلِّي بالنهايات، التي لا يَعتَبر لها منازل أدنى، ولا أخرى حتى.
لذلك، فإن الإيمان بصحة الإجراءات «دائمًا» في السياسة، قد أفضَى إلى وجود حياة سياسية حديد داخل النظم الحاكمة، وإلى وجود فضاء اجتماعي مُسيطَر عليه بشكل أيديولوجي في مسيرة النضالات الشعبية. وهما من أسوأ مواضع السياسة.
وعندما تنشأ أنظمة سياسية حديد، ودفوع اجتماعية متأدلجة، فإنها تطغى على جميع مرافق الدولة، والفضاء الاجتماعي، بحيث تكون زاوية البلد السياسية والاقتصادية والثقافية متأسِّسَة عليها، وهو ما يعني ارتكاز جميع الشئون بذلك الجو الحديد، الذي بانهياره يعني حدوث الانهيار الشامل. وكذلك الحال بالنسبة للحالة الثورية المستبدَّة في آرائها وفعلها الثوري.
وهنا يجب أن نتذكر، أن إعدام روبسبيير، وزوال حكم اليعاقبة، قد أدَّى إلى إعلان الافلاس الوطني في فرنسا في العام 1797، ليس لأن الروبسبييرية كانت الحكم الفردوسي في باريس، بل لأن الحياة السياسية التي خلقتها كانت أقرب إلى العدمية، وإلى اضمحلال الاعتدال، وقيام زاوية الدولة الفرنسية على الرأي الثوري الأحادي، واستبعاد بقية الآراء.
في كل الأحوال، فإن البناء على قيم الاعتدال وعلى المشتركات هو من أفضل الخيارات؛ لأننا ندرك، أن هذه القيم وتلك المشتركات، هي عادة ما تُنتِج سياقا يأخذ في الاتساع شيئًا فشيئًا، وعندما يأكل المشتَرَك في المتقاطع من خلال التجربة، تصبح هناك علاقة عكسية إيجابية، بحيث كلما اتسع المشتَرَك قَلَّ التقاطع.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3880 - الأحد 21 أبريل 2013م الموافق 10 جمادى الآخرة 1434هـ
فعلا كلام جيد
شوف العراق حاليا فبعد ان كان النظام الوطني مستقر تسقط الابرة في بغداد وتسمعها في السلمانية او الموصل شوف التفجيرات والقتل علي الهوية وتمزيق العراق فالامريكان وهم اسباب الاحتلال جلبوا لهم حكومة من الشوارع وعلي دباباتهم بسم الديمقراطية رحمك اللة ياشهيد العصر صدام حسين
بالرغم
بالرغم بأنني لا أترحم على جرائم الحكم الصدامي في العراق إلا أنني أقر بأنه كان قادرا على ضبط البلد من الانقسام المذهبي وإنتاج دولة مركزية
الحية والعسل
عندما نقتنع من أن سم الحية بقلته يكون فيه فائدة وأن العسل المصفى بكثرته به مضرة حينها سنفهم أن الأنظمة والثورات بها مقدار من الصحيح والخطأ
الأستاد مخمد
مقالك اليوم ليس في السياسة فقط , انه مقال يعطي الفارئ نظرة بانوراميه لكل جزئيات الحياة وبكل تأكيد فانني سأحاول استخلاص بعض الأجابات لما يشغل عقلي من بعض القظايا الحياتيه علي ضو, هدا المقال . شكرا لك .
hi
مقال مهم يتضمن فكرة اكثر اهمية وجدلية . شكرا لكاتبا المتميز الاستاذ محمد