أتجنّب ما استطعت لغة العاطفة والخيال؛ ولكنها ذخيرتنا في زمن اللاعاطفة. زمن اليباس في الخيال والذاكرة. لا شيء يحصّننا اليوم سوى العاطفة في بعدها الذي يذكّر بالإنسان. الإنسان الذي يكاد يختفي ويضمحلّ وينقرض في حقيقته التي مسّتها أكثر من يد سوء أو إغراءات تكتلات ومجاميع.
يعرف المصاب بحساسية الوعي معنى أن يكون الإنسان شاهداً ويُراد له ألاّ يشهد، ومعنى أن يكون قادراً على الفعل والحركة ويُراد له أن يكون مُقعداً ومحاصراً بشلل مُعَدّ له بحسب مواصفات الظروف والمرحلة. لحظات لا تخلو من قسوتها، تلك التي تعزل الإنسان - أي إنسان - عن قدرته على مواجهة الأخطاء والتجاوزات والخلل والبيع بالجملة والمفرق.
الدموع في العجز لا تغسل الأخطاء. على العكس هي تعمّقها ويشعر أي ذي حسّ منّا بمرارتها المُضاعفة. كأنها مرارة الوقوف في طوابير لتقديم العزاء في رحيل أحبّة. كأنها مرارة الفقْد التي هي بطعم الأجل وربما أشدّ مرارةً.
تأخذك الشاشات العربية الرسمية إلى جولات سياحية في الكذب ودروس المواطنة التي تُعِدّ مناهجها أجهزة الرصْد الأمني، ولا يحق لأجهزة التعليم أن تفتح نافذة - وليس فمها - للاحتجاج على تلك الوصْفة التي تحوّل المواطن إلى شيء أو ما دونه بدرجات. تحوّل المواطن إلى شبح يتم استدعاؤه إذا تطلّبت الضرورة!
تأخذك عقود من المغامرات التي تدفع ثمنها شعوب أصيبت بالهُزال والكُساح في وعيها ومحاولاتها؛ بالنظر إلى حيوية الأجهزة الكابسة على أنفاسها ونسيان خياراتها وما تريد وما لا تريد.
تأخذك يوميات السُلَط الرسمية التي تمعن في تسخيف وتسذيج ما يُسمّى المواطن العربي، ذلك الذي لا تتباهى به السلطات إلا حين يُفْرم في مكنتها الرسمية (شهيداً) ويدخل في دائرة التخوين والعمالة والارتباط بجهات خارجية حين يكون على الضفة الأخرى من الخيار والقرار بشجاعته في تعرية كل هذه المهازل الرسمية التي تأتينا في صور دول وممالك وإمارات من العار والخزي والإهانة، واستعراض الرعايا في أكثر من سوق للنخاسة في الألفية الثالثة من قرن يبدو أنه فقد عقله.
المَشَاهد وُجدت لتبكي بعدها. قليل منها يبعث على ضحك أو ابتسامة نادرة شحيحة. حتى الضحك يحدث في حال هستيرية تدفع الواحد منا دفعاً إلى نسيان ارتباطه بأولوياته، وأن يكون على ارتباط حسّي وشعوري مع حقيقة المشهد والتعبير عنه انفعالاً كردّ فعل على درجاته التي نعرف. نضحك في مواضع البكاء. نبكي في مواضع الفرح والضحك.
الأمة الوحيدة التي تأوي إلى النوم وتمارس طقوساً قبله ربما بساعات: طقوس استطلاع الخيبات، واستطلاع الهراوات التي أصبحت أقلاماً والرصاص الذي أصبح ممحاة للحياة، والكذب الرسمي الذي أصبح واحداً من السلع المدعّمة، واستعراض الواجهات البحرية التي أصبحت بلاغة اللصوص في عصر نسي بعض بشره درساً اسمه الخجل حين يبيت نظراؤهم في الخلق في أماكن وبيئات لن تجدها في البيئات الاصطناعية للحيوانات في الغرب الذي يُكفّر صباح مساء على منابر بعض المسلمين الذين تكاد لا ترى ما يدلّ على انتمائهم لهذا الدِّين السمح الرحب.
يُراد لهذا الجزء من العالم أن يكون جنوباً في التهميش والاحتقار لا بفعل اجتياحات جيوش عابرة للحدود؛ بل بفعل قارات من خلل القرارات والسياسات والنظر إلى بشر هذا الجزء من العالم. جنوباً يراد له أن يكون، وصانعو السياسات تلك في شمالهم الاصطناعي الذي لاشك سيكون مؤقتاً.
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 3880 - الأحد 21 أبريل 2013م الموافق 10 جمادى الآخرة 1434هـ
ماغوط
نحتاج لماغوط آخر أستاذ جعفر، لنعرف الانسان العربي الذي يراد له أن يكون مسخراً في آلة العبودية الأبدية!
العائد
المقال جدا جميل واقعي الى ابعد الحدود
انتهى زمن المصداقيه
اصبح الانسان العصري خائفا على مصالحه لان ببساطه يملك الكثير ليخاف عليه عكس الانسان في السبعينات او قبلها كان مبادئه يحركه ولكن الآن اوهموه سوف يفقد حتى الهواء الذي يستنشقه اذا تفوه بكلمة حق