في جميع الظروف، فإن ما يكتبه المرء يجب أن يكون له أولاً إن كانَ «نصحاً». ثم يأتي الآخرون تباعاً كي يأخذوا (خفضاً) أو يلفظوا (ترفعاً) ما سَمِعوه منه. هذه رياضةٌ أخلاقية، يجب أن نعيها جميعاً. فلا ينبغي لنا أن «نُزهِّدَ في الدنيا ولا نزهَد، ونُرغِّب في الآخرة ولا نرغَب». هذه لازمة ودَدت أن أستهل بها القول.
أما أصل الحديث، فهو التفكر في مجتمعنا العربي وما يعانيه من مشاكل، مُصابٌ هو منها في لُبِّ قلبه. أهم تلك المشاكل وأكثرها إيلاماً، هي ما يُمكن أن نسمِّيه بـ «فقدان القدرة على تحسس المكان». وما أعنيه بذلك القول، هو عدم قدرتنا على إدراك أين نقف نحن بالضبط بين هذا العالَم، سياسياً وثقافياً وفكرياً وعلمياً حتى ينقطع النفس.
بمعنى أكثر وضوحاً، إذا كان هناك عالَمٌ أول وعالَمٌ ثانٍ وعالَمٌ ثالث فما هي المساحة التي تفصل بينهم في التقدم والتجربة والرؤية للأشياء، وموضعنا نحن بين تلك العوالم. ثم، إذا كانت البوذية في الشرق، والهندوسية في الجنوب، والمسيحية في الشمال والغرب، والإسلام في «الأوسط» فكيف ننظر نحن إلى الدِّين وكيف ينظر الآخرون له؟ كيف نتحاور حضارياً وماذا يجب أن نأخذ أو نترك من الوسائل والسبل، وما هي مساحة اللعب في المباح، وما هي حدود المحرَّم؟ وأخيراً وليس آخراً، كيف هو السبيل للتطور؟
في غير مرة، يذهب المسئولون العرب (وحتى من غير المسئولين) إلى بريطانيا أو اليابان أو سنغافورة أو الولايات المتحدة الأميركية، فينبهروا مما يُشاهدونه من تطوُّر «مدني» و»تقني» وتطوُّر في النظام التعليمي، فينبرون جاهدين، لأن يُطبقوا ذلك في بلدانهم، طمعاً في استحصال ذات النتائج، أو الرغبة في مواكبة التطور العالمي، وبالتالي مغادرة التخلف.
سَمِعوا عن نظام الغرفتين في المجالس النيابية، فأرادوا تطبيقه. وسمعوا عن نظام الأحزاب في السياسة فأرادوا تطبيقه. وسمعوا عن قوانين الإرهاب والعقوبات فأرادوا تطبيقها. ثم سمعوا عن النظم التعليمية المتطورة، فأرادوا تطبيقها. لكنهم وأمام كل ذلك «السعي» لمحاكاة الآخرين، يصطدمون لاحقاً، بأن الكثير من تلك التجارب لا تنتهي إلى نجاحٍ بالضرورة، بل إن بعضها يُدخِل بلداننا إلى مشاكل أكبر مما كنا فيه حتى.
نعم، قد تصلح بعض التجارب للتطبيق، إذا كانت متعلقة بحالة «ميكانيكية» صرفة، لكن أغلبها يفشل. والسبب في ذلك، أن تلك التجارب التي تنتهي بالإخفاق، هي مرتبط بذات المجتمع، حركةً ووعياً، ثم (وهو الأهم) هي مرتبطة بطبيعة النظام السياسي والبيروقراطي للدولة العربية. ثم استيعاب مدى تغوُّل وتأثير الثانية على الأولى. بمعنى أن شكل النظام السياسي مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالحركة الاجتماعية، تأثيراً وتأثراً.
«قد» ينجح نظام المجلسين في بريطانيا، لكنه «قد» يفشل لدينا. لأن سبب نجاحه في بريطانيا غير متوفرة لدينا أساساً. فليس هناك ماضٍ ديمقراطي عريق، وليست هناك منظومة سياسية متقدمة، موصولة بقاع المجتمع والطبقة الوسطى، وليس هناك وجدان يتحسس الديمقراطية بشكلها الصحيح، القائم على احترام الآراء المتعاكسة.
كذلك، لا يمكننا أن نطبِّق نظاماً معيناً للعقوبات كالذي هو موجود في الولايات المتحدة الأميركية؛ لأن نظام العدالة مهتز لدينا بالأساس، ولا تتوفر في بيئتنا ما هو أبعد من الهمِّ الأمني، مع غياب واضح للحقوق والحريات الصحيحة (وليست الديكورية) وبالتالي، يُصبح تطبيق العدالة ترفاً وسط مشهدٍ من الانتهاكات الدافعة لارتكاب ردَّات الفعل.
أيضاً، لا يمكننا تطبيق النظام التعليمي في اليابان بحذافيره، لأننا بالأساس غير متوفرين على جوهر التعليم الياباني. فليس هناك اهتمام بالسلوك الطلابي الحازم، اللفظي أو الفعلي، ولا بظروف الربط مع الحياة المنزلية، ولا يوجد هناك اهتمام بالعلاقات الإنسانية ولا النواحي الأخلاقية، فضلاً عن أن الطلاب لدينا مرغَمون على الارتباط بهموم الفضائيْن السياسي والاجتماعي.
لذا، يجب أن يُفهم جيداً، أن حركة الناس وتدافعهم، وشكل النظم السياسية، تقومان بصناعة المدارج الفردية والجماعية، التي تنطلق منها الأفكار، ونستقبل من خلالها التجارب. وعندما تكون هذه المدارج في وضعٍ غير مؤهل للعمل بطاقة أكبر من التجارب المستورَدَة، فإنها تكون عاجزة عن أداء عملها الفعلي فضلاً عن الفعل الزائد عن وزنها.
في الأحوال العربية، فإن النظم السياسية عندنا، عادة ما تربط حركتها بالمجسَّات الأمنية، فيكون هاجسها الأول هو الأمن. وهو شعور نابع من نقصٍ بيِّن في مسألة العلاقة الهرمية، ما بين الحاكم والمحكوم. وعندما يكون هذا المزاج هو المتحكِّم، فإن كلّ شيء يصبح مشدودًا إلى ذلك المزاج الناشف، والمتهيأ دائمًا للعمل بريبة من الآخرين.
إذًا، التحدي الحقيقي ليس أن نقيم «مشاريع» مماثلة مع ما هو موجود في الدول الغربية أو المتقدمة، وإنما التحدي الحقيقي، هو كيف نقيم «ظروف» مماثلة تؤدي إلى ذات النتائج التي تجعلنا قادرين على بناء مشاريع متقدمة مدنياً وتقنياً، كما أدَّت في السابق الدور ذاته عند الدول المتقدمة اليوم. فالصحيح، هو أن المقدمة الصغرى هي التي تسبق المقدمة الكبرى، فضلاً عن النتيجة، وبالتالي يصبح الأمر في حالة اتساق مع المنطق وليس مع العَبَث.
قد نصرف سنين طويلة وندفع أثماناً باهظة، ونحن نجتهد في بناء تلك الظروف المماثلة، لكننا إن فعلنا ذلك، فإننا في الحقيقة، ننحتُ في صخر. والنَّحت في الصخر، أبقى من الغَرْفِ مِنَ البحر.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3878 - الجمعة 19 أبريل 2013م الموافق 08 جمادى الآخرة 1434هـ
الاصلاح كما يريدونه ..ووزارة التربية مثالا.
اصبت كبد البلاء اخي الكريم..اذا غضضنا النظر عن المشاريع التخريبية للانظمة فان المشاريع التطويرية مسكونة بهذا الداء الوبيل..وهو كما وصفت ضعف ثقة بالمحكومين وفي الذات..مع العناد بتطبيق كل ما يكون عبئا زائدا على من يطبق عليهم المشروع دون ان تعدل الجهة المنظمة من اسلوبها وشبكة مصالحها الفئوية واهمها نظام العدالة المقلوب في كل شي.
فعلأ كلام جدا منطقى
فى اعتقادى المتواضع نحن او هم لسنا من كواكب تعيش خارج اطار الكره الارضيه لو تواضع بعض الشى من يحكمون الشعوب العربيه من رؤساء او ملوك او خلفاء او او مع شعوبهم وكانت المسافه قريبه جدا بينهم لا تصتدم بجدار اسمنتى صلب كما فعل كل الانبياء والصحابه رضوان الله عليهم اجمعين لكنا افضل ما هم عليه لان فى الاساس نحن من صدره لهم علوم الدنيا والدين
ممتاز
احسنت و سلمت اناملك اخي العزيز.ليت لدينا من يعي حقيقة ماكتبت . حفظك الباري
hi
A very important article which shows the culture Author and briefed capacity.
Thank you always for such a wonderful Articles
مرحبا بك
لمادا ياصديقي لا تكتب باالغربيه .كنت مثلك ولكني علمت نفسي ان اطبع نلغتنا . احييك واتمني لك كل الخير .
النحت في الصخر أبقى من الغرف من البحر
سلمت كاتبنا العزيز ..مقال في الصميم
المشكله أنهم يدفعون الأثمان الباهضة لشراء تجارب الآخرين ..دون أن يحاولوا ولو مرة أن تكون لهم تجبتهم الخاصة
وهذا نراه جلي في وزارة التربية والتعليم وتخبطها المستمر ولو بحثنا عن الأسباب قد تكون من النظرة الناقصة لشعوبهم وككان شعبهم أضعف وأعجز من أن يعتمد عليه ..