لا يمكن حصر حدوث التغييرات الاجتماعية وما تقود إليه من تغييرات تشمل النظام السياسي في سبب واحد كما تنحو لذلك بعض النظريات المادية، فقد تكون الظروف والحاجة تدفع بتكوين طبقة ذات نفوذ اجتماعي وتأثير كبير على النظام السياسي، فمثلا يذكر الإمام الصدر أنه في مصر القديمة ونتيجة لصعوبات كبيرة كانت دائمة الحدوث من أكبرها فيضان الأنهر، لم تكن الحياة الاجتماعية ممكنة بدون تصدي جهاز بمستوى ضخم ومنظم، فنشأت على إثر هذه المعطيات الدولة من أجل تسيير الحياة الاجتماعية. ونتيجة للمعارف التي كان يمتلكها طائفة الاكليروس المصريين في نظام الزراعة، تبوء هؤلاء دورا كبيرا في النظام السياسي. نفس الأمر ينطبق على رجال الكنيسة في جهاز الدولة الرومانية، فبعد الغزو الجرماني الذي كان من أبرز الأسباب الرئيسية لسقوطها في القرن الخامس الميلادي، انهار التعليم والثقافة، ولأن رجل الكنيسة كان هو الوحيد من بين فئات الشعب يجيد القراءة والكتابة والتكلم باللاتينية، ويفهم دون غيره حساب الشهور، ويمكنه ممارسة الأعمال الإدارية، وبسبب حاجة ملوك الجرمان لمن يصرّف شئون الإدارة الحكومية في وقت هم منشغلون في الغزو والحرب ورحلات الصيد، تمكن رجال الكنيسة من تبؤ دور خطير في الحياة السياسية وتأثيرهم في الجهاز السياسي الحاكم، ما جلب لهم منافع مادية ومكاسب كبيرة في أوربا العصور الوسطى كما هو معلوم.ويمكن الزعم بثقة بوجود أكثر من عامل وأكثر من سبب لطروء تغييرات اجتماعية تقود لتطور أو تغيير في النظام السياسي بشكل معيّن، ولا توجد حتمية تاريخية ذات نمط واحد كما تزعم بعض النظريات كالماركسية، فبعض البلدان احتاجت لصراع والكثير منها لم يحتاج التغيير إلى دماء وأشلاء وصراع طبقي، و» إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم».
ويعتبر العامل الاقتصادي من أحد الأسباب المهمة لحدوث تغييرات في النظام الاجتماعي تنعكس على النظام السياسي، إما تقود لمزيد من الاستبداد والتفرد بالحكم أو تؤدي لإشراك الطبقات الأخرى في القرار، خصوصا منها المساهمة في إيرادات الدولة وموازنتها، ففي القرون الأخيرة، انتقلت بعض الدول الأوروبية من عهد الإقطاع والسخرة إلى الرأسمالية الصناعية وما صاحبها من تغييرات على أنظمة الحكم،.فمثلا، في أعقاب الحروب الصليبية، ظهرت طبقة من التجار في بعض المدن الايطالية مثل فلورنسه والبندقية، تشتري ما تنتجه المصانع الصغيرة وتعيد بيعه في الشرق، وبسبب اتفاقهم مع سلاطين المماليك على احتكار التجارة مع الشرق، ازداد نفوذ هذه الطبقة وعلا مركزهم وزادت ثرواتهم، فقاموا بإقامة مصانع ضخمة لحسابهم الخاص، فقضوا بذلك على تلك المصانع الصغيرة التي كانت تزودهم بالمنتجات،وبسبب تفاقم تأثيرهم في الحياة الاقتصادية، تمكنوا تدريجيا من القضاء على سلطة الإقطاع ونقل البلاد إلى مرحلة الرأسمالية الصناعية، ومن ثم الاشتراك والتأثير على شكل النظام السياسي في المرحلة الجديدة.
ودور التجار وأصحاب الصناعات في صياغة أو تطوير نظم الحكم نابع من أثرهم في الحياة الاقتصادية، وحاجة الأجهزة الحاكمة لجهودهم وما يجلبونه من منافع وأموال لتصريف شئون الدولة، فمن يملك يؤثر في الحكم، ففي دولة الكويت مثلا، ساهم التجار في صياغة النظام السياسي، وبناء العلاقة بين الشعب والحكم، وهذا يعود لدورهم المحوري منذ القرن الثامن عشر حين كانت الكويت ميناء يطل على شمال الخليج، التف حوله الكثير من العشائر، وكانت الدولة تعتمد في حياتها الاقتصادية على التجارة البحرية وكل ما له علاقة بالبحر. وكانت أسرة آل صباح جزءا من هذا النسيج الموجود على هذا الميناء، يحكمون وفق البيعة التي تشترط عليهم المساواة والعدل من قبل وجهاء العشائر والتجار. ويرى بعضهم أن «هذه الطبيعة التجارية لمجتمع الكويت قد خلقت توازنات سياسية واجتماعية ووضعت قيودا على احتمالات الاستبداد بالسلطة».
ونتيجة لما للتجارة وكبار التجار من دور في رفد خزينة الدولة، حدث توافق مع الأسرة الحاكمة، فآل الصباح يديرون شئون الحكم ويصرفون أمور الدولة، ولكن بالمشاورة والتفاهم مع كبار التجار، وكان بعض التجار أكثر ثراء من الحكام أنفسهم ما مكنّهم من القدرة على التأثير على تسيير شئون الحكم. وقد تراوح دور التجار في صوغ النظام السياسي والتأثير عليه بين مد وجزر، وهبوط وارتفاع، حتى قام كبارهم بضغوط قادت لتشكيل مجلس استشاري يكفل لهم صوتا في عملية صناعة القرار وذلك سنة 1921 في عهد الشيخ أحمد الجابر.ومع أن المجلس لم يستمر طويلا، إلا أنه بمعطياته قد شكل في نظر بعض الباحثين الانطلاقة الأساسية لتشكيل المجلس التأسيسي وكتابة الدستور سنة 1962.
إن دافع التجار عندما يتحركون للتأثير على النظام الحاكم، حفظ مصالحهم عن طريق قانون ينصفهم ويمنع التعدي على ممتلكاتهم أو يؤثر على تجارتهم ونشاطهم، وينظم ما تستحقه الدولة وما يدفعونه للحكام من ضرائب. وهذا من ناحية ابتدائية يعد منطلقا سليما لتحقيق حكم يتسم بالصلاح والإنصاف وسيادة حكم القانون.
وعلى إثر اكتشاف النفط في بعض الدول العربية ومنها دول الخليج في ثلاثينات القرن الماضي، ومداخيله الخيالية التي غطت حاجة شعوب المنطقة، تمكّنت الدولة من إقامة بنية اجتماعية ومؤسسات تعليمية وصحية ومشروعات تنموية كثيرة، لكن الثروة النفطية في رأي كاتب هذه السطور قد أدت لإعاقة تطوير النظم السياسية في الدول التي اعتمدت بصورة كلية عليه في اقتصادها، وبالتالي دفعت الحكومات لتهميش دور شعوبها بمختلف الطبقات بما فيها طبقة التجار والصناعيين وإبعادهم عن مراكز اتخاذ القرار، ومن ثم كرّس هذا الكشف حالة التهميش والإقصاء عن الاشتراك في صياغة النظام السياسي والمشاركة في القرار، وربما كان النفط من أسباب تلكؤ حركة التطور في النظام السياسي وتعثر التجربة وتوهين دور التجار في الكويت أيضا.
لقد وضعت الحكومات يدها على إيرادات الصادرات النفطية، ونتيجة لأحداث عديدة، منها حرب أكتوبر سنة 1973 بين مصر وسورية من جهة و«إسرائيل» من جهة أخرى، ولتخفيض الإنتاج العربي واستخدام سلاح النفط بمنعه عن بعض الدول الغربية الداعمة لإسرائيل، ومنها أميركا، ارتفع سعر برميل النفط لأضعاف سعره السابق( من دولارين إلى 7 دولارات)، فقد انخفضت صادرات الإنتاج مايقارب 20 مليون برميل إلى 15 مليون برميل يومياً.
بعد الحرب، انخفض سعر البرميل مرة أخرى إلا أنه لم ينخفض عن 5 دولارات، وربما تكون هذه الثروة من دواعي حل المجلس الوطني سنة 1975 في البحرين، لإتاحة الفرصة بالتصرف في هذا الكنز المفاجئ من دون رقابة ومسائلة شعبية، وفي نهاية السبعينات وبداية الثمانينات، ارتفع سعر البرميل لأكثر من 35 دولار.
وقد كانت الإيرادات من صادرات النفط وحدها، تغطي أكثر من 70 ? من موازنة بعض الحكومات الخليجية، واستمر هذا الحال إلى يومنا هذا، بل زيادة الأسعار مرة أخرى منذ 1999 لحد الآن والتي بلغت حاليا ما يقارب 65 دولارا، جعلت دولة كمملكة البحرين والتي تعد من الدول الأقل حظوة في مجال النفط، تعتمد بنسبة تصل إلى ما يقارب ?76 من موازنتها العامة لعام 2005م على الإيرادات النفطية وحدها كما ذكر الباحث الاقتصادي جاسم حسين في صحيفة «الوسط» بتاريخ1-11-2006.
إن هذا الوضع جعل بعض الدول النفطية العربية في غنى عن التجار ولم تعد لهم مساهمة ذات بال في الإيرادات الحكومية، فدول الخليج لا تفرض ضرائب تصاعدية على القطاع الخاص، مما قاد لتهميش دور هذا القطاع في الحياة السياسية، إضافة إلى أن أكثر التجار لا يعبأون بالشأن السياسي مادامت ثرواتهم مصانة ومصالحهم محفوظة، والخشية على المال شبه منتفية تقريبا لضآلة ما تطالبهم به الدولة. وإذا كان التجار وأرباب الصناعات وهم الذين ينبغي أن يكون بأيديهم الجزء الأعظم من مصالح الناس، إذا كان هؤلاء لا دور لهم ولا تأثير في الحياة السياسية وفي نظم الحكم، فكيف ببقية طبقات المجتمع الأخرى، خصوصاً إن عائدات النفط ذات صلة ضعيفة بالجهد الإنتاجي للقوى العاملة من المواطنين في هذه البلدان، وهذا الدخل ليس سوى ريع نفطي، مثله مثل من يعثر على كنز.
بجانب ضآلة دور طبقة التجار في نظام الحكم بعد اكتشاف النفط وارتفاع أسعاره، فقد تم توظيف جزء كبير من الدخل لتشكيل أجهزة استخباراتية في الكثير من الدول العربية النفطية، من أجل منع أي مطالبة بالإصلاح، حتى أصبحت بعض الدول النفطية العربية دولا شبه بوليسية، وأطلقت السلطات يد أجهزة المخابرات لعدة عقود لقمع الأطراف المعارضة بكل قسوة ومن دون قيود.
حالياً، وفي ظل استمرار ارتفاع أسعار النفط، واستغناء حكومات الدول النفطية بدرجة كبيرة عن مساهمة الأطراف الأخرى من الشعب من تجار وغيرهم في الموازنة العامة، في هذه الحالة، فقد يكون الأمل في تطوير النظم السياسية والمشاركة في القرار والثروة معقود في الدرجة الأولى على تضافر جهود النخب ومؤسسات المجتمع الأهلي من مختلف التيارات، خصوصاً في ظل تنامي أثر هذه الأطراف ودورها. ولكن من غير المستبعد تنبه بعض الحكومات لذلك، وقد تلجأ إلى خلق نخب موالاة للحيلولة دون دمقرطة نظم الحكم ولو بالضرب على الوتر الطائفي في بعض الظروف، ولعل الكشف عن دور بعض النخب مؤخرا واكتشاف بعض المؤسسات الأهلية كجمعيات في ظاهرها حقوقية مثلاً، ثم يتضح أنها ممولة ومدعومة رسمياً، يدخل في إطار قمع أي أمل في تطوير وإصلاح حقيقي للنظم السياسية.
إقرأ أيضا لـ "عباس هاشم"العدد 1519 - الخميس 02 نوفمبر 2006م الموافق 10 شوال 1427هـ