في تاريخ الحركات السياسية، ارتبطَ الخوفُ من الديمقراطية، بمنظومة الحكم الفاسد. فَكَابَد الحكام المتجبِّرون حتى آخر رمقٍ لديهم، بما كان عندهم، كي لا يُغادروا سلطتهم، أو حتى أن يتنازلوا عن شيء مما عندهم للآخرين. وكان هذا الأمر، دَيدَن مَنْ حَكَموا بعض الإمبراطوريات المترامية، بل وحتى في البلدان الصغيرة، التي لم يكن لها نفوذ كبير.
لكن، هناك سياقٌ آخر، مُرتبط بتاريخ الحركات الاجتماعية وموقفها من الديمقراطية أيضاً. فخلال قراءتنا للتاريخ، سنلحظ أن هناكَ قطاعات «شعبية» عارضت التحوُّل الديمقراطي، وتغيير الظروف القائمة، والمتأسِّسة على القمع ونهب الثروة وغياب الحرية.
وقد ارتبطت مثل هذه الصور بحقب العبودية وتكرُّس حكم الإقطاع، التي شهدتها أوروبا وروسيا وأجزاء كبيرة من آسيا. ورغم أن العبودية كانت بسَوْق العبيد إلى الفيافي للعمل كخَدَمٍ لأسيادهم من دون عصيان، إلاَّ أن صورة هذا النمط قد تطوَّرت لاحقاً، لتأخذ أشكالاً أخرى، دون المساس بأصل العبودية، والتسليم المطلق.
فعندما قُضِيَ على الإقطاع (على نمط عَيْش كاترين الكبرى) وعلى السُّخرة، بفعل التمنُّع الاجتماعي، وتطوُّر المفاهيم السياسية، وانبلاج ثورَتَي فرنسا وانجلترا، وما تلاهما من أحداث، بدأ الملوك والأرستقراطيون في التفكير بنمط آخر من العبودية، يُمكننا أن نطلق عليه تسمية «العبودية المَيْزِيَّة».
جوهر هذا النوع من العبودية، هو إقامة أحزمة من الجماعات والقطاعات الشعبية، والأحزاب، كي تقوم بأدوار وظيفية مُحدَّدة، في مقدمتها الدفاع عن السيِّد، لكنها وفي الوقت نفسه، تقوم على التعاضديات والمنافع المشتركة، المختلَّة في ميزانها، الذي يمنع مساواة أولئك بأسيادهم بأي حال من الأحوال.
بمعنى، أن الحكم، يقوم بتقريب جماعات مُحدَّدة من الناس، يجمعها عنوان «الطاعة المطلقة» لكل شيء مهما كان شأنه، وتقوم بشرعنة حكمه وحمايته، في سبيل منحها امتيازات خاصة، نتيجة لتلك الطاعة. والحال أن تلك الجماعات قد لا يجمعها انتماء ديني ولا اجتماعي ولا سياسي إلاَّ في مسألة الطاعة المطلقة للحكم المتجبَّر.
والحقيقة، أن هذا الشكل من العبودية، قد أنتج سلطة مُشوَّهَة، تقوم على التشطير الاجتماعي، وإقامة فواصل حادة بين الفئات الشعبية، بحيث يُعاد إنتاج الولاءات بطريقة مُشوَّهَة أيضاً، وإبراز المتمنعين على أنهم خارجون عن الإجماع، في حين أن الجوهر ليس كذلك، وإنما هو التمييز بين الناس عبر المنافع والمصالح، لإنتاج الولاء والدفاع في آن.
هنا، نأتي إلى مفتاح العبودية الجديدة، والقائمة على «المَيْز» أو التمييز بين الناس. ونحن نقول في اللغة: وقد أَمازَ بعضَه من بعض، ومِزْتُ الشيءَ أَمِيزُه مَيْزاً: عزلته وفَرَزْتُه، كما في لسان العرب. ونحن نتساءل بعد هذا: ماذا يُمكن أن يُقدم ذلك التمييز، حين يُستَمَاز بعض الناس عن بعضهم؟ والجواب ببساطة كما ذكرنا سلفاً، هو المنفعة، المتحَصَّلَة من تعاضد العبد مع سيِّده عبرها، والتي تجعل هؤلاء في منزلة الحظوة دون غيرهم.
عندما تصل الأمور إلى هذا الحد من المنافع المتبادلة، يتحوَّل الآخرون ممن هم خارج طَرَفَيْ المعادلة (السَّيد والعبد) جهات غير مُمَثلة في العلاقات الداخلية، ولا في منظومة المصالح والمنافع المفتَرَضَة، وبالتالي ينشأ منها عادة سلوك مضاد لما هو قائم، لإعادة التوازن للشأن السياسي والاقتصادي والاجتماعي في داخل البلد الواحد.
هذا السلوك المضاد، عندما يستعر، يُقرِّب طَرَفَي المعادلة أكثر، لأنهما يَجِدان أن ما يجمعهما في التصدي له، هو ما يتشاركان فيه من مصالح. لذا، تنسى تلك الجماعات، التي تورَّطت في «العبودية المَيْزِيَّة» أنها في الأصل، إحدى المُكوِّنات العددية للمجتمع التي تقوم بالأساس على العلائق البينية، فتنحاز إلى ثقافة السلطة بمقتضى النفع وتنسى اجتماعيتها الفطرية.
إذاً، ليس الأمر متعلقاً بأمور أقل من المنفعة. هي تريد أن تُبقِي على تميُّزها المادي والنفسي عن أية قطاعات أخرى. التميُّز الذي يمنحها ما «لن» تحصل عليه حين تقع القِسمة «الأكبر» من الكعكة، وبدون حسابات سياسية ولا اجتماعية ولا اقتصادية، وبالتالي هي لا تستطيع أن تفرِّط في انتمائها «للمنفعة» عبر تميُّزها عند سيِّدها ولو بالعبودية.
لقد أنتَجَ هذا التحالف القائم على المصالح، نوعاً جديداً من المفاهيم الخاصة بالثروة الوطنية وبتعريف الولاء، والنظرة إلى الحقوق المدنية. كما أنه قوَّى من نَزعَة ما يُمكن أن نطلِق عليه بـ «النَّجْوَة الاجتماعية» القائمة على ترفُّع فئوي وهمي، حين ترى بعض الفئات، أنها الأحق بكل شيء، فلا يتساوى معها البشر من ذات السِّنخ الاجتماعي.
وهو في الحقيقة، تقليدٌ في التكبُّر، دَرَجَ عليه المُلْكُ العضوض والتسلطي، فيرى أولئك «المَيْزِيُّون» أنهم صنوٌ آخر من ذلك التسلط، الذي يجب أن يكون لهم بمقتضاه ذات المواصفات التي تُخرِجهم عن مساواتهم بغيرهم من الناس. وهي في الحقيقة، إحدى أسوأ النزعات الفوقية، التي مَقَتها الإسلام، (بل والنفس البشرية) وجاهد لتفكيكها.
إن تلمُّظ السلطة من قِبَل بعض الفئات الاجتماعية، قد لوَّث (مع شديد الأسف) نظرتها للأخلاق وحفظ الحقوق وبالشعور بالإنسان، ثم العيش بفوقية. وقد أفضى كل ذلك، إلى تشبثها الشديد بتلك السلطة، إلى الحد نَسَت فيه آدميتها حتى، فأضحت ترى في نفسها الشرف والمروءة، وفي غيرها الضعف والهَوان.
وهنا، أودُّ أن أذكر هذه الحادثة من التاريخ (لمناسبتها المقام) والتي ذُكِرَت في «نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة»، والتي تعكس الشعور ذاته، والإحساس ذاته بالمنزلة الفوقية. تقول الحادثة: كان أبو جعفر المنصور محمد بن منصور القاضي يتقلَّد كُور الأهواز للمتوكِّل، وقد رَوَى أبو القاسم التنوخي عنه الحادثة التالية:
استدعاني أبو جعفر فقال: يا أبا محمد كيف سعر الخبز عندكم؟ قلتُ: خمسون رطلاً بدرهم.
قال: فالدجاج؟ قلتُ: ثلاثٌ بدرهم.
قال: فالفراخ؟ قلتُ: ستة بدرهم.
قال: فالجَدَّاء؟ قلتُ: أجوَدُ الجَدي بدرهمين.
وسألني عن العسلِ والسُّكرِ وغير ذلك من الفواكهِ والثلجِ وأنا أخبِرُهُ بسعرِ البلدِ على الحقيقةِ بالذي يُشتَرَى لنا ولسائر الناسِ مثله، وهو يقول: أهكذا يشتري لكم؟ فأقول: نعم. فلما استتمَّ الكلام قال: يا غلام قُل للموكَّليْن والفرَّاشين أن يَحمِلوا ويَشدُّوا الثقل على البغال والجمال، وأسرجوا لي الدَّواب والعمَّارية. فقلت: أحَدَثَ أعَزَّ الله القاضي شيء؟
قال: نعم، كنتُ أحسبُ أنكم تبيعوننا بهذا السعر إرفاقاً لنا لما امتَنَعنا عن قبول هداياكم، فلما أخبَرتَنِي الآن أنني وأهل البلد نشتري بهذا السعر عَلِمتُ أن هذا بلَدٌ لا تقوم فيه مروءة لِشَريفٍ، وأن الضعيف والشريف فيه يتساويان في اللذات والمروءات، فلا حاجة لي بالمقام فيه ولابد أن أرحل الساعة، واجعل مقامي بحيث تبين مروءتي وتظهَر نعمة الله عندي! ورحَلَ من يومه.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3873 - الأحد 14 أبريل 2013م الموافق 03 جمادى الآخرة 1434هـ
ثنائية العبد والسيد
قد نوافقك يا أخ محمد في الكثير مما ذكرت ، فقد يصدق تحليلك على الفئة التي ترى نفسها في القمة والسلطة ، ولكن الفئة الأخرى والني استمرأت العبودية ، ففي ظاهرها يروق لها ذلك لما تحصل علية من مميزات ، لكن كن على يقين أن في داخل نفوسها ضعف شديد وهوان ما بعده هوان ! وصدق سيد البلغاء الإمام علي ( السلام ، عبد الشهوة أذل من عبد الرق
سلمت اناملك
الأعمي بالاشارة يفهم
الأموات
اللبيب قد يفهم والأعمى قد يدلونه لكن الميت ماذا نفعل له؟
nice
nice