تكتب شيئاً مفرحاً في تويتر فيباغتك أحدهم بتغريدة عن الآخرة والموت، ولا يفتأ يذكّرك بالحساب والعقاب. تتابع مئات التغريدات يومياً فتجد أغلبها يدور حول الحروب والدماء والقتل، والخلافات الطائفية والعرقية، والصراعات الطبقية في عالمنا العربي، ما يدفعك إلى التساؤل: أين اختفى الفرح؟ وهل حالتنا الاقتصادية اليوم أسوأ من أجدادنا الذين عاشوا في الخيام وبيوت العريش قبل ستين عاماً حتى نكون، على ما يبدو، أتعس منهم؟
كانت جدتي رحمها الله مريضة، ومنذ أن أدركتُ الدنيا لم أرها ترفل بصحة جيدة. إلا أنها لم تكن تكثر من الحديث عن المرض، بل كانت امرأةً بشوشةً سعيدةً، وعندما أخذتها مرةً إلى المستشفى لعلاج التهاب أصاب عينيها، قال لها الطبيب إنها أتت في الوقت المناسب؛ ولو أنها تأخّرت فلربما فقدت القدرة على الإبصار. ابتسمَت وقالت لي: «لو تأخرتُ لكنتُ دخلتُ الجنة»، وكانت تتحدّث عن الأجر العظيم الذي خصّصه الله تعالى لمن فقد بصره.
لم أدرك حينها من أين كانت تأتي بكل ذلك التفاؤل والإيمان، وعلى رغم أنها لم تكن متعلمةً ولم تقرأ ستيفن كوفي أو أنتوني روبنز، فإنها لم تعانِ عقداً نفسيةً ولم تكن الكآبة قادرةً على التمكّن منها.
أتساءل الآن: لماذا لا نستطيع، ونحن المتعلمون والمسئولون ورجال الدين والتجار والدارسون والمتميزون، أن نحسن الفرح؟ ولماذا يبحث الناس اليوم عن الصراعات ويستمتعون بمختلف أنواع الحروب؛ الكلامية والنفسية والجسدية؟ ولماذا صار الإنسان العربي المسلم أمير حربٍ في بيته وفي العمل وفي المسجد وفي الشارع؟
وضع أحدهم مقطوعةً موسيقيةً على تويتر قبل أيام فانهالت عليه «النصائح» وفتاوى التحريم والتحذير من عذاب القبر وعقوبة صبّ الرصاص في أذنه! لماذا كل هذا التقريع والتعنيف من أجل مقطع موسيقي؟ الأمر بسيط: إن كنت ترى في الموسيقى حرمةً فلا تسمعها، ولكن لا تفرض رأيك على الآخرين أو تُنصب نفسك مفتياً للديار الإسلامية. ولا تستخدم حديث «الدين النصيحة»، فللنصيحة شروط أولها ألا تكون في العلن، ووسائل التواصل الاجتماعي كلها علن. ثانياً، لا يجوز أن يقدّم النصيحة إلا من يملك المؤهلات العلمية والخبرات الحياتية، وإلا صارت الحياة فوضى.
يُخطئ من يظنّ بأن البؤس و»التكشير» من صفات القادة والمُنجِزين؛ فمن الصعب أن تجد ناجحاً بائساً. لقد تفوّق الناجحون لأنهم سعداء، أو لأنهم آمنوا بالسعادة، ولم يصيروا سعداء لأنهم نجحوا.
تعلّمتُ في دورات الخطابة التي كنت أحضرها في جمعية «توست ماستر» أن أبدأ أي كلمة ألقيها بنكتة، أو بتعليق طريف، حتى يسهل على الناس تقبّل ما سأقوله لاحقاً. ولا أدري لماذا نبدو، في عالمنا العربي، جادّين حدّ القتامة في خطاباتنا الرسمية وفي حواراتنا العامة. لماذا اختفت البهجة من حياتنا؟ ولماذا تضيق علينا المُدن رغم رفاهيتها حتى تكاد تخنقنا؟ هل لأننا لا نُحسن الفرح ونبحث عمّا ينغّص علينا أوقاتنا، دون أن ندري؟ كأن نقوم من على طاولة الطعام، وسط الأهل والأصدقاء، لنُجري اتصالاً هاتفياً نتعلل بأنه ضروري.
علينا أن نكفّ عن البحث عن الأفضل ونبدأ بتقبّل الأنسب. لا يعني هذا ألا نُكافح من أجل سعادتنا، ولكنه يعني ألا نستميت في سبيل الحصول عليها؛ فالسعادة حالة نعيشها وليست ظرفاً نمر به. وإن من تعاسة الإنسان أن يقولب سعادته في بضاعة تُشترى وتباع، ومن يفعل ذلك يصير فرحه قصيراً، ناقصاً، ومملاً جداً. ومن تعاسته أيضاً ألا يرى السعادة إلا في الآخرة، متجاهلاً قوله تعالى: «ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً» (البقرة، 201).
يقول تشارل ديغول: «السعداء أغبياء»، ويعتقد كثيرون، مثله، بأن السعداء المنبسطين سُذّج وسطحيون. ويبدو أنهم نسوا بأن السعداء لا يُشاركون في الحروب، ولا يسيئون إلى الآخرين، ولا يحطمون حُلماً، ولا يغتالون فرحة.
لم أكن مؤمناً بأن السعادة تنبع من الداخل، كما يقول الكُتّاب والروائيون، ولكن عندما رأيت الفقراء المعدمين، والمرضى المتألمين، قادرين على الضحك كلما سمعوا نكتةً، ويستطيعون أن يحلموا بغد أفضل، أدركتُ بأن السعادة والفرح من صنع الإنسان وليست هِباتٍ تُمنح له.
يصبح المرء تعيساً عندما تخلو حياته من شغف، فلا يملك حينها إلا المتاجرة بالحزن والقلق وإحباط الآخرين. وإذا كان السعداء أغبياء حقاً؛ فإنني أُفضّل أن أعيش حياتي سعيداً غبياً، على أن أقضيها تعِساً ذكياً.
إقرأ أيضا لـ "ياسر حارب"العدد 3871 - الجمعة 12 أبريل 2013م الموافق 01 جمادى الآخرة 1434هـ
الأمر يعود
الأمر يعود إلى العقد النفسية عند بعض الشباب الدين يحسدوا الآخرين على تفاؤلهم فيريدون تعكير جو الأخرين بالفتاوى الدينية فهم يتاجرون بالدين كما يتاجرون بالسلع
وهل يوجد ما يدعو للإبتسام في هذه الحياة !!
جميلة وممتعة جدا هي مقالاتك أستاذ ياسر ,وأجمل ما فيها ان كل مقال بمثابة دعوة للتفائل والأمل والسعادة , لدرجة انني بمجرد ان ارى صورتك قبل قرائة عنوان مقالك يتبادر لذهني مباشرة " مقال لأستاذ تفائل". فما أجمل اللغة التي تكتب بها وإلى الأمام دائما وشكرا جزيلا لك.
بعض الهراء المتفائل!
الامراض المزمنة وبعضها من الولادة تدخل الانسان في نفق اسود من الكآبة وحكم بالسجن المؤبد على صاحبها البريء وتشل تفكيره وحياته ولا اعتقد ان الكاتب يعيش الواقع
مقال رائع
شكراً لك
عذرا .. لا وقت للدينا للتفكير!
غيري الموضوع يا (سيدتي) .
ليس عندي الوقت والأعصاب
كي أمضي في هذا الحوار ..
إنني في ورطةٍ كبرى مع الدنيا ،
وإحساسي بعينيك كإحساس الجدار ...
أنا آتٍ من زمان الوجع القومي
آتٍ من زمان القبح ،
آتٍ من زمان الإنكسار .
إنني أكتب مثل الطائر المذعور ،
ما بين انفجارٍ .. وانفجار ..
فاشرحي لي :
كيف أستنشق عطر امرأةٍ ؟
وأنا تحت الدمار .
إشرحي لي :
كيف آتيك بوردٍ أحمر ؟
بعد أن مات زمان الجلنار ..
(نزار قباني)