يشمل مصطلح «الحضارة» أن تكون هناك «دولة» ذات حدود زمانية وحدود مكانية بالإضافة لامتلاكها مظاهر «حضارية»، هذه المظاهر في السابق كانت تقتصر أساساً على أدوات معينة منها نوعية الفخار وشكل الأختام وهو ما سنتطرق له في فصول لاحقة. والحضارة التي تمتلك حدود زمانية ومكانية ومظاهر ثقافية وحضارية خاصة بها هي حضارة ذات هوية معينة. وهوية الحضارة تنمو منذ بداية تأسيس الحضارة وتنضج معها، وتنتشر معها. فالحضارة لها مركز وهو المكان الذي بدأت تنمو وتنضج فيه الهوية، ولها أيضاً انتشار، وهي الأماكن التي انتقلت لها المظاهر الحضارية والثقافية الخاصة بالهوية الحضارية. في ضوء ذلك، وفيما يخص حضارة دلمون، أين نشأت هويتها؟ بمعنى آخر، هل هوية دلمون محلية أي أنها نشأت على أرض البحرين، أم أنها نشأت في مكان آخر وانتقلت إلى البحرين؟

لا يمكن الإجابة عن تلك الأسئلة إلا بعد توضيح معنى اسم «دلمون»؛ فدلمون، كاسم، ارتبط بأربع هويات مختلفة: دلمون الهوية الأسطورية، ودلمون الهوية المجهولة، ودلمون الهوية الحضارية (أي دولة دلمون)، ودلمون الهوية الفرضية (أي حقبة دلمون).

دلمون الأسطورة والدولة والحقبة

ذكر اسم دلمون في العديد من النقوشات في فترات زمنية مختلفة وبأشكال مختلفة (سبق ذكرها في سلسلة سابقة) وهي تغطي فترة زمنية طويلة فيما بين 3200 ق. م. - 567 ق. م. وتقسم هذه الفترة الطويلة إلى أربعة أقسام بحسب الهويات التي ارتبطت بها:

-1 الفترة 3200 - 2500 ق. م. وقد سادت فيها هوية دلمون الأسطورية، وبالإجماع فإن هذه الحقبة لا ترتبط بالبحرين.

-2 الفترة 2500 - 2200 ق. م. وفي هذه الفترة ارتبط اسم دلمون بمنطقة جغرافية معينة مازال الباحثون مختلفين على تحديدها.

-3 الفترة 2200 - 1700 ق. م. ولدت ونضجت في هذه الفترة هوية دلمون على أرض البحرين.

-4 الفترة 2300 - 567 ق. م. عرفت هذه الفترة في تاريخ البحرين القديم باسم «حقبة دلمون»؛ حيث إنه من المرجح أن البحرين كانت تعرف في هذه الفترة باسم البحرين.

دلمون بين اسم الأرض واسم الهوية

استطاعت «دولة دلمون» التي بدأت بالنمو والتطور على أرض البحرين أن تكون لها هوية حضارية وأن تنتقل هذه الهوية لشرق الجزيرة العربية، وجزيرة فيلكا في الكويت. إلا أن عدداً من الباحثين يعتبر دلمون في الفترة 2500 - 2200 ق. م.، هي شرق الجزيرة العربية، وقد كان دانيال بوتس أول من ادعى أن دلمون نشأت منذ عصر الوركاء في شرق الجزيرة العربية وقد كانت تمتد من منطقة أبقيق حتى جزيرة تاروت وبعدها أكملت الامتداد لتشمل الإحساء وجزر البحرين ولتصل أخيراً حتى جزيرة فيلكا في الكويت (Potts 1983). ومازال العديد من الباحثين يرجحون نظرية بوتس.

وقد بنى بوتس نظريته على أساس أن هناك تسلسلاً حضارياً في شرق الجزيرة العربية أقدم من البحرين. في واقع الأمر هناك فترتان للاستيطان القديم في شرق الجزيرة العربية الأولى ما بين 3300 ق. م. - 2400 ق.م والثانية ما بين 2100 ق. م. - 1800 ق. م. (Piesinger 1983, p. 467). وقد ارتبطت كل فترة بهويات مختلفة. ففي الفترة الأولى كان العامل المشترك الوحيد بين مناطق شرق الجزيرة العربية هو الفخار المستورد (Piesinger 1983, p. 464)؛ بمعنى أنه لا توجد هوية واحدة متوحدة وواضحة في شرق الجزيرة العربية حتى وإن افترضنا صحة ارتباطها باسم دلمون. نعم هناك جماعات محلية كونت لها هويات محلية في شرق الجزيرة العربية، لكن لم يكن لها ذلك الوجود الذي يكون هوية واحدة متوحدة ذات قوة بحيث تصدر هويتها للخارج. وهذا لا يتعارض كون جزيرة تاروت ذات أهمية كبرى بالنسبة لطرق التجارة القديمة ولكن السؤال المطروح: ما هي هويتها الحضارية؟ وهل صدرت تلك الهوية للخارج؟ على عكس ذلك نلاحظ دولة دلمون التي تكونت على جزر البحرين هي التي كونت لنفسها هوية واضحة واستطاعت أن تنتشر حيث امتدت لشرق الجزيرة العربية وجزيرة فيلكا.

الخلاصة، أنه لا ينكر أحد من الباحثين أن هناك هوية حضارية تكونت على أرض البحرين وشكلت «دولة» في الفترة 2200 - 1700 ق. م.، سواء كانت هذه الحضارة أو الدولة اسمها دلمون أو أي اسم آخر؛ فالهوية ذات حدود زمانية ومكانية ومظاهر حضارية وثقافية واضحة؛ بينما اسم دلمون ليس بالضرورة مرتبط بالبحرين أو بهوية حضارية معينة، فهو اسم متنقل ومتعدد الاستعمالات، ولو لم يرتبط بالهوية الحضارية التي نشأت في البحرين لبقي دون هوية حضارية. وعليه، يجدر بنا أن نتأمل ونحن نبحث في تاريخنا القديم، فهل نبحث عن هويتنا الحضارية؟ أم أننا نبحث عن هوية حضارية نربطها باسم «دلمون»؟ في الواقع، كان الخيار الثاني هو المحفز، على الأقل، للباحثين الأوائل الذين كانوا يبحثون عن دلمون وليس عن «هوية شعب دلمون».