نظم مركز دراسة الإسلام والديمقراطية في تونس المؤتمر الثاني حول الإسلام والديمقراطية، وكان موضوعه لهذا العام «الانتقالات الديمقراطية في العالم العربي... التجربة التونسية كنموذج»، وذلك خلال يومي 29 – 30 مارس/آذار 2013. والمركز تأسس في واشنطن من قبل الأكاديمي رضوان المصمودي، الذي كان منفياً من تونس، وقد صمد المركز أمام حملة الكراهية ضد المسلمين ومؤسساتهم التي اجتاحت الولايات المتحدة بعد هجمة 11 سبتمبر 2001 في ظل الرئيس السابق جورج بوش الابن.
وأسهم المركز على امتداد عقدين، في التأسيس لثقافة إسلامية ديمقراطية إصلاحية جريئة. وعندما نجحت الثورة في تونس في 14 يناير/ كانون الثاني 2011، قام رئيس المركز رضوان المصمودي بتأسيس فرعٍ ثانٍ للمركز في تونس العاصمة، حيث يعتبر من أنشط مراكز البحوث وأكثرها تأثيراً في تونس، وقد عقد مؤتمره الثاني هذا ليتناول أهم موضوع تمر به المنطقة العربية، بعد أن اجتاحها ربيع الثورات العربية التي انطلقت من تونس في ديسمبر/كانون الأول 2010، ولذا فإن عقد مؤتمر حول التحولات الديمقراطية في البلدان العربية التي شهدت ثورات وانتفاضات وتشخيص النموذج التونسي في البلد الأول لانطلاق الثورة ونجاحها هو اختيار موفق جداً.
د. رضوان المصمودي، أعلن قبل أشهر عن عقد المؤتمر، وأقيم له موقع إلكتروني وتم توجيه الدعوة المفتوحة لكل من يريد أن يشارك بأوراق في المحاور التي تم تحديدها، وتحال هذه الأوراق للجنة تحكيم أكاديمية، وفتح المجال للتسجيل أون لاين لكل من يريد. وبالفعل وكما ذكر المصمودي، فقد تلقت لجنة التحكيم أكثر من مئة ورقة اختير منها بحدود 30 ورقة.
حشد سياسي وأكاديمي
شهد المؤتمر حشداً سياسياً تونسياً وحشداً أكاديمياً عالمياً لا سابق له، فقد كانت معظم القيادات السياسية والحكومية التونسية من مختلف الأحزاب حاضرة، فكان هناك الشيخ راشد الغنوشي أمين عام حركة النهضة، وعلي العريّض رئيس الحكومة عن حركة النهضة، ومصطفى بن جعفر رئيس المجلس التأسيسي وأمين عام حزب التكتل من أجل العمل والحريات، ووزراء الإعلام والعمل والهجرة والخارجية، كما كان هناك زعماء الأحزاب فتحي العيادي عن حركة النهضة، والطيب البكوش عن حزب نداء تونس، والمولودي الرياحي عن حزب التكتل، وعبدالعزيز المسعودي عن حزب المسار، وعبدالوهاب الغاني عن حزب المجد، والذين إما ألقوا كلمات منفردة، أو اشتركوا في ندوة الأحزاب «روى لتونس الجديدة»، وإلى جانبهم حضر دبلوماسيون وسفراء غربيون كبار، وشارك حشد من كبار الأكاديميين من تونس والولايات المتحدة وأوروبا والمنطقة العربية، ومن أشهر الجامعات مثل هارفرد، وجورج تاون وكولومبيا ودينفر، وكاليفورينا، وباريس وبولونيا، وبرلين ومدريد ولندن واسطنبول. وكان برنامج المؤتمر مكتظاً بحيث يبدأ التاسعة صباحاً وينتهي الساعة التاسعة مساء، وشمل جلسة افتتاحية وجلسة ختامية وإحدى عشرة جلسة عمل.
أعمال المؤتمر
كانت هناك ثلاث محاور أساسية لأعمال المؤتمر وهي:
1 - التجربة التونسية في الانتقال الديمقراطي، ويشمل ذلك التجربة التاريخية لتونس في بناء الدولة والمجتمع، وصيرورة الثورة، وتجربة الانتقال الديمقراطي بعد نجاحها.
2 - تجارب بلدان أخرى شهدت ثورات ونجحت في الانتقال الديمقراطي ومنها تركيا -التي حظيت باهتمام خاص- ودول أوروبا الشرقية، وبعض الدول العربية مثل مصر والبحرين والجزائر والمغرب واليمن.
3 - مناقشات ومقاربات فكرية تاريخية ومعاصرة، حول العلاقة بين الإسلام والديمقراطية، والإسلاميين والعلمانيين، والإسلام والحكم.
عصف ذهني
يمكن القول إن المؤتمر وعلى امتداد يومين حافلين، قد شهد عصفاً ذهنياً رائعاً، لتحليل التحديات الكبيرة التي طرحتها ثورات الربيع العربي سواءً داخل كل بلد عربي أو على امتداد الوطن العربي، وسواءً من شهد ثورات انتصرت فيها الثورة أو مازالت تعيش مرحلة الإرهاصات.
وقد أظهرت المناقشات حول الثورة التونسية، الطيف السياسي والفكري الواسع في المجتمع التونسي وقوى الثورة، كما أبانت الخلافات والتباينات فيما بينها، وكذلك أظهرت حرصاً شديداً من قبل القوى السياسية والمجتمعية التونسية سواءً المشاركة في الحكومة أو خارجها، وتصميم التونسيين على إنجاح الانتقال الديمقراطي عبر مراحله المختلفة ليتوّج بإقرار الدستور من قبل المجلس التأسيسي، وإجراء انتخابات نيابية في أكتوبر/تشرين الأول 2013، لتؤسس لحكومة دائمة في العهد الجديد. وأظهر التونسيون من مختلف الأطياف تسامحاً رائعاً فيما بينهم، واحتراماً متبادلاً وتصميماً على أن تقدّم تونس رائدةً في الانتقال الديمقراطي الناجح، كما كانت رائدةً للثورات العربية.
وأتاح المحور الثاني مناقشة تجارب في الحراك الديمقراطي في بعض البلدان العربية ومنها البحرين والمغرب والجزائر واليمن ومصر، مع تبايناتها، حيث أن الثورة انتصرت في مصر واليمن، وجرت تغييرات عميقة على البنية الدستورية والمؤسساتية في المغرب، وبعض التغييرات في الجزائر، فيما لم تحدث تغييرات تذكر في البحرين التي تشهد أزمة سياسية عميقة، ولكن المقاربة ضرورية حيث هناك عوامل مشتركة في الوضع العربي، والبنية السياسية الحاكمة.
وأتاحت مراجعة التجربة التركية من قبل خبيرين، فهماً أفضل للتجربة التركية وحدودها وإيجابياتها وسلبياتها في بلد إسلامي كبير، يتعاطى بنشاطٍ في الشئون العربية، وكان يمثل إلهاماً للشعوب العربية قبل انطلاق ربيعها ووُضعت عليه آمال كبيرة بدعم الثورات والتحول الديمقراطي، لكن حسابات السياسة لا تتطابق مع المبادئ دائماً. ورغم ذلك تظل التجربة مهمة. أما تجربة الانتقال في بلدان أوروبا الشرقية من الحكم الشيوعي الشمولي إلى الحكم الديمقراطي التعدّدي، فقد كانت مفيدةً أيضاً في فهم التحالفات السياسية والمجتمعية، في إنجاح هذا الانتقال بسلاسة، وتوفير الكثير من الدماء والخسائر المادية والمعنوية التي منيت بها بلدان الثورات العربية، والتي وصلت إلى حرب أهلية مدمّرة في ليبيا وسورية، وحرب متقطعة في اليمن، واضطرابات في مصر.
الخلاصة
لاشك أن هذا المؤتمر مهم جداً، ومن المفيد متابعة الأوراق والمناقشات التي تم نشرها على موقع المركز www.csia.org. ويمكن لكل شخص أن يستنتج ما يريد، لكنني أرى أن التونسيين، الإسلاميين منهم والعلمانيين، والأحزاب التونسية الخمسين بمعظمها ما عدا السلفيين واليساريين الفوضويين، يقدّمون تجربة إيجابية على التحالفات الضرورية، والحوار والتعايش والتعاون فيما بينهم داخل الحكومة وخارجها، واستراتيجيتهم هي التوافق وليس الحكم أو القرار بالأغلبية. وقد أظهرت مناقشات مسودة الدستور في المجلس الوطني الانتقالي ذلك، ونسوق على ذلك مثال حزب النهضة، أكبر الأحزاب التونسية، فقد رشّح على قوائمه الانتخابية نساءً ورجالاً علمانيين من خارجه، وتخلّى عن تضمين الشريعة الإسلامية في الدستور باعتبار أن الشعب التونسي مسلم ولا يحتاج الأمر إلى نص.
ولقد سمعنا من قادة أحزاب ووزراء، نقداً ذاتياً وتواضعاً لم نعهدهما في القيادات والوزراء العرب. لقد كان الأخوة التوانسة متواضعين في تقديم تجربتهم الناجحة، ومستعدين لسماع أي نقد وملاحظات... وهذا يسجل لصالح تونس والتونسيين.
إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"العدد 3870 - الخميس 11 أبريل 2013م الموافق 30 جمادى الأولى 1434هـ