أنهى الحراك الشعبي إبان أحداث أواخر التسعينات 1997 - 2000، حقبة قانون أمن الدولة، التي استمرت 27 عاماً منذ 1975، والتي اتسمت في الجانب الشعبي، بالضياع الدستورى والضياعات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، فتبدّت سوءات النفوذ الفردي في ظل غياب نظام المؤسسات والقانون وفي ظل وأد الدستور.
ما جعل فقد الثقة في الحكومة (السلطة الوحيدة التي استمرت 43 عاماً) وفقد الأمل الشعبي في انقشاع الغمة السياسية والأمنية تتعاظم لدى كافة مكونات الشعب، فكان الحراك الذي استمر متقطعاً طوال السنوات اللادستورية العجاف، إلى أن أثمر بحراك التسعينات، من بعد البدايات التي روجت لها الحكومة وأعوانها، من وصف الحراك بالطائفي وتخوين رموزه وقياداته، ووصم حراك الشارع بالعنف والإرهاب، إلا أن تلك الحراكات لم تتوقف بل تكاملت بمضمونها الميداني والسياسي والدستوري، فكانت هناك لجنة العريضة التي جمعت رجالات طائفتي المجتمع، في جميع التنوعات السياسية والحقوقية والمهنية، إلى بداية عام 2000، إثر تفاوض الحكم ممثلاً بشخص الأمير مع رموز المعارضة في الداخل والخارج، والذي أفضى إلى الأمر الأميري رقم 36 المنشور في 22 نوفمبر/ تشرين الثاني 2000، بتشكيل اللجنة الوطنية العليا لإعداد مشروع ميثاق العمل الوطني.
الملاحظ أنه من بعد التفعيل الأول لمبدأ الشعب مصدر السلطات، بعد الاستقلال خلال الحقبة القصيرة التي امتدت ما بين يونيو/ حزيران 1972 بمرسوم انتخابات المجلس التأسيسي، الى أغسطس/ آب 1975 بمرسوم حل المجلس الوطني وتعطيل العمل بدستور 1973، نهجت الحكومة مبدأ التفرد بالقرار وتغييب الإرادة الشعبية، فعمدت إلى آلية الإرادة المنفردة، في جميع المفاصل الدستورية والسياسية اللاحقة لغاية اليوم، فمن بعد استفراد مجلس الوزراء (الحكومة)، بجميع السلطات بالأمر الأميري رقم 4 لسنة 1975، إلى أن ألقي بأمر ملكي رقم 2 لسنة 2002، درجت الحكومة على الاستفراد بالقرار والتصرف بالثروة الوطنية، من دون رقيب أو حسيب، فجاء حراك أواخر التسعينات، وكان ملاحظاً فيه الفعل المُضحي لأفراد الطائفة الشيعية الكريمة، وكان مكملاً له حراك أفراد الطائفة السنية الكريمة التي لم تسلم هي الأخرى من القهر والضيم وقدم أفرادها أيضاً تضحيات، كما في الحراكات التاريخية والحراك الحالي، جاء الحراك للمطالبة بالحقوق المدنية والمساواة والعدالة في توزيع الثروة الوطنية، وتمكين الشعب بكل طوائفه لممارسة حقه السياسي والحقوقي، فخضعت الحكومة للضغوط التي ولّدها الحراك، ولكنها لم تتعامل مع الشعب، بل مع الرموز الوطنية والدينية من الطائفتين، وما زالت تترفع على أن الشعب مصدر السلطات، ونتيجة للحوارات والمفاوضات، أعلنت العائلة الحاكمة في شخص الأمير، الأمر الأميري رقم 36 آنف الذكر، وجاءت اللجنة بالتعيين بإرادتها المنفردة، ونتيجة لتلاحم الشعب بطائفتيه الكريمتين، ولتراكم سوءات الأداء الحكومي، ولقباحة قانون أمن الدولة، وممارسات المتنفذين في السلطات ومن والاها، بما أساء لثقة الشعب فيها، قياساً للعهود والاتفاقات الدولية في مجال حقوق الإنسان، الأمر الذي دعّم المطالب الشعبية من الجانب الدولي.
وخلال المخاض السياسي الذي تمخض عنه الميثاق، بنصوصه الدستورية والحقوقية، التي جاءت من نصوص دستور 1973، في المواطنة والمساواة والحقوق، وإعادة بناء سلطات الدولة المدنية الحديثة واستقلالها، إلا أنه احتوى نصوصاً مبهمة فيما يتعلق بالسيادة للشعب، وبنظام الحكم التاريخي وصوغه بمسمى نظام الحكم الخليفي (1)، دعماً لسيادة العائلة الحاكمة على الشعب، وإهمال الإشارة إلى الدستور العقدي 1973، بما يوحي بمرجعية الميثاق وتثبيت إلغاء الدستور العقدي كما جاء في الأمر الأميري رقم 4 لسنة 1975، ولا ينفي ذلك إلغاء هذا الأمر بأمر أميري آخر من بعد صدور الميثاق ودستور 2002، ناهيك عن توصيف طرف الحكم إزاء الشعب، مرة بالحاكم إزاء الشعب (2) ومرة بالحكومة إزاء المواطنين (3).
في العودة عن ما نص عليه الأمر الأميري رقم 36 لسنة 2000 في مادته الخامسة «يُعرض مشروع ميثاق العمل الوطني على مؤتمر شعبي عام... لإقراره»، وتتعاظم الإرادة المنفردة في النكوث بباقي نص المادة «ويصدر بأمر منا تشكيل المؤتمر الشعبي ودعوته للانعقاد»، فالمؤتمر الشعبي العام ودعوته للانعقاد، لا تعني سوى مجلس دستوري ينتخبه الشعب، ولكن عملت الإرادة المنفردة عملها على محوه واستبداله بالاستفتاء الشعبي العام، الذي تتحكم في نتيجته بالتصويت بنعم، غالبية نتائج نصوصه المبتغاة شعبياً، والذي أي الاستفتاء، لا يترك مجالاً لتعديل ما ليس مرضياً عنه شعبياً، الأمر الذي هو هروب بإرادة منفردة، من سلطة الشعب في مجلسه الدستوري المنتخب، الذي بيده إبدال ما هو غير لائق ومبهم من نصوص الميثاق، والتي استُعيض عنها بأوراق ووثائق غير رسمية وغير ملزمة في أحد المجالس الخاصة.
ثم تطورت سلطة الإرادة المنفردة، فيما يتمثله الحوار الوطني في شقه السياسي اليوم، من تعيين أطراف الحوار، فواضحٌ لدى قيادات الجمعيات السياسية الوطنية المعارضة، أنها غير واثقة من قدرتها على تثبيت المطالب الشعبية الحقة في وثيقة دستورية ملزمة للسلطات، ليس لضعف أو تشكيك فيها، وإنما اشتراط التوافق مع الحكومة والحكم والطائفيين من الموالاة الذين يرون أنفسهم قلة شعبية، تحرمهم سيادة الشعب من تمييزهم ومن مواردهم المالية الشخصية لقاء موالاتهم، ونتيجة لمعاييرهم الدينية والمذهبية في مقابلة المعايير الوطنية لإقامة الدولة المدنية، يجعل من التوافق أمراً مستحيلاً، إلا في المطالب المعيشية والخدمات المحدودة، على حساب المطالب الدستورية والسياسية والحقوقية، في مبدأ المواطنة والعدالة والمساواة، في مملكة دستورية ديمقراطية، تتمثل في الدولة المدنية، لذا تستنجد المعارضة بشرط الاستفتاء الشعبي على مخرجات الحوار، ويستنجد الحكم والحكومة ومواليهما بإرادتهم المنفردة في ما لن يتم التوافق عليه، ودون استفتاء الشعب وفي ظل الاستمرار في تغييب الإرادة الشعبية.
وهكذا تستمر أزمة الوطن، مُبتسرة في استمرار الإرادة المنفردة، لقاء تغييب المبدأ الدستوري أن الشعب مصدر السلطات، وفي استمرار تجاوز السلطات للدستور والقوانين والعهود والمواثيق الدولية الخاصة بحقوق الإنسان، والاكتفاء ببهرج النصوص دون التطبيق والتفعيل على أرض الواقع، بل ممارسة نقيضها في الإجراءات الأمنية المتجاوزة كل حدود حقوق الإنسان والمواطنة، وفي إفلات المتجاوزين من العقاب، لتثبيت الوضع بما هو عليه من غَلَبَة الإرادة المنفردة، وتوصيف كل من تُسوِّل له نفسه من الجموع الشعبية، لأن تطالب بالحقوق المدنية ودولة المؤسسات والقانون، والرقابة الشعبية على السلطات، ومبدأ أن الشعب سيد ومصدر السلطات، بالخيانة والصفوية والطائفية ثم الإرهاب.
ثم حين تنجح الجموع الشعبية، التي تراها السلطات والموالاة اليوم، وتصفها بالخيانة والصفوية والطائفية وثم الإرهاب، حين تنجح من بعد تنظيم صفوفها وتطوير أساليبها، واستفادتها من تجاربها السابقة وتجارب الشعوب الأخرى، في انتزاع الحقوق الشعبية، سترى هذه الأطراف المُعارِضة للمعارَضَة، أول المنخرطين في العملية السياسية الجديدة، مثل ما حصل مع ثمار حراك التسعينات، رغم التخوين، وتحريم الديمقراطية، ثم آلوا إلى التسابق إليها، وإبطال التحريمات التي أطلقوها، وتشاركوا ثمارها مع من خَوّنوهم في المطالبة بها.
فمن هم الخونة (في خيانة الشعب لحقه في السيادة ومصدرية السلطات)، ومن هم الصفويون (في التصافي والصفوة بالتمييز)، ومن هم الطائفيين (في العداء والممانعة الطائفية على حساب المواطنة المتساوية)، ومن هم الإرهابيون (في إرهاب الناس الفكري من نظام الدولة المدنية بمبدأ العدالة والمساواة واحترام معتقدات الآخر الدينية والمذهبية، والتهديد بممارسات التكفيريين من القاعدة وسواها).
(1) الفقرة الخامسة من ديباجة الميثاق.
(2) الفقرة السابعة من المصدر نفسه.
(3) الفقرة الثانية من ديباجة دستور 2002.
إقرأ أيضا لـ "يعقوب سيادي"العدد 3865 - السبت 06 أبريل 2013م الموافق 25 جمادى الأولى 1434هـ
لا حياة لمن تنادي
مقال أكثر من رائع يلخص موقف الموالاة ومعارضة المعارضة. لماذا لا يصحون أنصار هذا التيار ويدعمون المطالب المحقة وبهذا تعم الاستفادة للجميع .
ما اقدر اعبر لك عن شعوري
ما اقدر اقول الا سلمت يداك المرهفات
حقائق ليست مغيبة تجاهلها الناس
كثير من الناس من يعرفون الحقيقة ولكن لا يريدون الاعتراف بها فصمت اذانهم وعميت اعينهم عنها خوفا او طمعا في حفنة من المال فالويل كل الويل لاناس باعت ضمائرها الى اهوائها وغراسها الشيطانية ونسوا بان هناك خالق يرى ويحاسب لكن اقول قاتل الله الجهل
بارك الله فيك يا استاذ
كثر الله من أمثالك الوطنيين الذين لم يتلوثوا بالطائفية البغيضة ولا يزال همهم الوحيد هو الوطن بجميع مكوناته
أحسنتم
ياريت تفكير كل المواطنين مثل تفكيرك الوطني الشريف يا صاحب القلم الحر سلمت يداك وكثر الله من أمثالك
عائد
اذا اردتم ان تجسدو الوطنية فجسدوها في هذا القلم الحر وحبره الذي اشتاقه من دماء الشعب الوطني شكرا لك
سيدي
كلام جميل و لكن اشرب في عقولهم و جيوبهم العجل و اظلهم السامري
العنوان كانه مال صحيفه .... مكرر
الي بيقرا المقال والعنوان من اول مرة بيتركه
ياليت العنوان يكون فيه توضيح اكثر
لانه الي بيقرا الوسط من اول مرة راح يصدق العنوان بس
وكثار من الناس بس ياخذون فكرتهم من العنوان بس
وصراحة مقال جميل مميز جدا ولكن العنوان
تحية إكبار
تحية إكبار لعقول بلدي النيرة هذه المواضيع التي تطرح وإلا فلا بوركت وبوركت أناملك
واقع مر وتحليل واقعي مرير
ولكن مهما طال ليل العناء والشده ..فلا بد من فجر تبدد شمسه تلك العتمات المظلمه ويأخذ كل ذي حق حقه. ولا عزاء للموتورين والطائفين المتمصلحين من الفتنه. اليس الصبح بقريب
سلمت يداك
مقال رائع ياليت يقراه اخواننا في الوطن ليعرفوا الحقائق المغيبة عنهم والمشوهة عمدا ودائما النصر في النهاية للشعوب باذن الله تعالي
مقال رائع
سلمت يداك يا صاحب القلم الشريف و الوطني
مقال رائع بامتياز
شكر يقعوب أنت في القلب
سترى هذه الأطراف المُعارِضة للمعارَضَة، أول المنخرطين في العملية السياسية الجديدة، مثل ما حصل مع ثمار حراك التسعينات، رغم التخوين، وتحريم الديمقراطية، ثم آلوا إلى التسابق إليها، وإبطال التحريمات التي أطلقوها، وتشاركوا ثمارها مع من خَوّنوهم في المطالبة بها.
نعم هذا بالفعل ما حدث في تلك الفترة ومازلوا يتمتعون بتلك الثمار ، ناس تضحي وناس تأكل على الجاهز ، وياريت يعترفون بمن ضحى وأوصلهم إلى تلك المغانم السياسية والتي تحولت إلى مصالح شخصية. شكرا يعقوب أنت في القلب
عقل مواطن شريف.
نعم انه عقل مواطن شريف حريص على وطنه فى اظهار الحق.فنعم الكلام وصح الله لسانك يا سيادى.
جميل ساقرأه مرات عديده
مقال تحليلي ناقد يستحق القراءة مرات عديده
مناقشة و بحث
عندما يفشل طرف ما فى مناقشة و رد مسألة ما، يحول النقاش الى إتجاه شخصى و يلقب الطرف الآخر بأسماء و ألقاب. المضحك بأن كثيرين لا يعملون معنى الألقاب التى يكرروها كالببغاء.