على رغم الانتقادات والرسائل السياسية الواضحة والصريحة التي تضج بها أغانيه، على الأخص أغنية «لازم غير النظام» التي حصدت جائزة فرنسية فيما منعت في الدول العربية، إلا أن الموسيقار اللبناني أسامة الرحباني يقف موقفاً عنيفاً من ثورات الربيع العربي. قد لا تستغرب هذا الموقف من أي فنان مثقف آخر، لكن قطعاً ليس من أسامة الرحباني، هذا المتمرد «الثورجي» الحداثي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يقف ضد التغيير وهو الذي ينتمي لمدرسة أسست لكثير من التغيير والتطوير في الموسيقى العربية، المدرسة الرحبانية وقطباها الأخوان عاصي ومنصور. هذا الذي عبَّر في موسيقاه عن عذابات شعبه وعكس أزمات عصره الاجتماعية والسياسية.
هو ابن منصور الرحباني، ولد عام 1965 في بيروت. تعلم العزف على البيانو عام 1973، ثم دخل عالم التلحين تدريجياً تحت إشراف أستاذه آغوب أرسلانيان. كان من مؤسسي فرقة (جازت) في منتصف الثمانينات. حضر دورتين لدراسة الموسيقى في معهد بيركلي الموسيقى في بوسطن بولاية ماساشوستس العامين 1990 و1995 على التوالي. ساهم في عدد من المسرحيات الموسيقية منها (الوصية) لمنصور الرحباني، (الانقلاب) لأخويه مروان وغدي الرحباني، وفي أعمال أخرى في مجال موسيقى البالية لفرقتي كركلا والرماح للرقص التعبيري.
عمل عام 1997 مع والده منصور الرحباني في مسرحية (آخر أيام سقراط) كملحن وموزع وقد عزفت أوركسترا السينفونية لمدينة كييف هذه المسرحية. من أشهر أعماله (غسان يلتقي أسامة)، (النظام الجديد)، (أسامة على خشبة المسرح). نال جائزة وكالة الفرانكوفونية ACCT.
فضاءات «الوسط» التقته على هامش مشاركته في مهرجان أبوظبي، إذ قدم أمسية مميزة احتفى خلالها بإرثه الرحباني العريق عبر عرض كلف به حصرياً من قبل المهرجان، قدم خلاله تحية خاصة للإرث الغنائي والموسيقي للأخوين الرحباني منصور وعاصي، واستعاد مع الجمهور بعضاً من أشهر ما قدماه من مساهمات مميزة للموسيقى العربية، وللأعمال المسرحية والشعر العربي خلال القرن العشرين.
أنت مكلف من قبل إدارة المهرجان بإعداد وتقديم عمل حصري للاحتفاء بالإرث الرحباني الذي تحمله وتواصل الحفاظ عليه. حدثنا أكثر عن هذا العمل.
- كان لفتة جميلة جداً من رئيسة مهرجان أبوظبي هدى كانو حين اقترحت عمل تحية للتراث الرحباني الكبير الذي تركه الأخوان عاصي ومنصور اللذان رحلا في العامين 1986 و2009. ضمن هذا المشروع وانطلاقاً من حبنا لهذه المدرسة الكبيرة، لم نشأ أن نقدم حفلاً غنائياً فقط وإنما أحضرنا بعض الأشياء مثل الملابس والموسيقى والمخطوطات وأشياء خاصة بهم، كذلك سنقوم بتنظيم محاضرة حول الأخوين الرحباني، سنتحدث فيها أنا وأخي غدي حول استمرار الطريقة الرحبانية التي تعتمد على المهنية العالية والضمير الواعي والإبداع.
العمل بتكليف حصري من مهرجان أبوظبي وهذا هو عرضه الأول. وقد قدمنا أنا وغدي في العام 2002 عملاً موسيقياً مشابهاً مع الأوركسترا الروسية هو «انطباعات من لبنان» قدمنا خلاله متتاليات من مسرحيات الأخوين الرحباني مع مؤلفين موسيقيين مثل بشارة الخوري وغابرييل يارد وإلياس رحباني. هذه المرة اقترحت أن نحضر بعض الأشخاص الذين ظهروا من المدرسة الرحبانية، ولذا سيسعد الجمهور بسبعة من أجمل الأصوات يغنون في ليلة واحدة مع أوركسترا كبيرة وبتوزيع أوركسترالي مختلف وجديد.
ما الذي يمكن أن يقدم مهرجان أبوظبي للإرث الرحباني؟
- يكفي أولاً أن إدارة المهرجان فكرت بشكل رائع وعلى مستوى راقٍ وعالمي في عمل هذه التحية وبهذه الطريقة، فنحن نغني مع الأروكسترا الأوكرانية السيمفونية ومع سبع نجوم لهم قيمتهم واحترامهم ومع كورال يتألف من عشرين شخص وموسيقيين من لبنان. هذه التحية الكبيرة فيها الكثير من الشياكة والدماثة والشفافية الرائعة لأشخاص هم أساس في تطوير الفن والموسيقى والأغاني والمسرح في العالم العربي.
أنت ابن منصور، الأكثر تمرداً، هل نتوقع أن نرى منك عرضاً متمرداً ككل عروضك السابقة؟
- (يضحك) نعم أنا متمرد في كل شيء، وكذلك هي عروضي فيها مستوى عالٍ من التمرد. أنا لم أفكر أبداً أن أحصر نفسي في أفكار معينة، في أعمالي أتبع جوهر الأشياء لكني أنفتح على كثير من الأمور.
قبل لقائي معك، التقيتُ هبة الطوجي، واحدة من أهم فنانات فرقة الرحبانية، ووجدتها على مستوى عالٍ من الثقافة رغم صغر سنها، كما سمعت كثيراً عن تحمسك الشخصي لموهبتها، هل تراهن عليها؟
- نعم هبة هي أصغر عضو أخذ دور بطولة في فرقتنا وهي مثقفة كثيراً ودرست الموسيقى بشكل جيد، كما إن لديها ثقافة فرانكفونية انجلوفونية جيدة جداً وهي أيضاً مخرجة وبدأت تشارك في المهرجانات وتوجه لها دعوات. هبة تملك مساحات صوتية وتقنيات هائلة وصوتاً رائعاً وحضوراً وجمالاً طبيعياً، وقليل من الأشخاص من تجتمع لديه كل هذه الأمور. نعم، أراهن عليها كثيراً. حققت نجاحاً وأتمنى أن تواصل نجاحها. منذ التقينا في البداية مع مسرحية «عودة الفينيق» أدهشتني بقدرتها على تمالك أعصابها أمام الجمهور في مسرح يحضره 5 آلاف متفرج في كل ليلة.
قدمنا هبة في أغنية جعلت الناس يعجبون بحضورها وجمالها، وهي محظوظة في ذلك فهذا أمر ليس هيّناً. يمكن أن أعلّم شخصاً ما كل شيء ولكن الكاريزما أمر مختلف وهي الأساس.
أنت من أكثر المتحمسين لموسيقى الجاز وتشتغل عليها.
- نعم وأدخل موسيقاي فيها وأعمل نوع من الصهر بينهما. لو سمعتي أسطوانة هبة الأخيرة «لا بداية ولا نهاية» ستجدين فيها أشياء رائعة بصوتها. أنا كنت أنتظر شخصاً يعمل لي الموسيقى التي أحلم فيها، وجاءت هبة، فوجدت لديها مساحات صوتية، صوتها أربع أوكتاف وهي سوبرانو كولوراتور.
ألا ترى أن الطريقة التي تقدم بها موسيقاك تجعلها نخبوية وغير قادرة على الانتشار والوصول إلى عامة الناس؟
- بمجرد أن يكون نصك نخبوياً أو به شعر مكثف يقف عند الناس. الناس الآن أصبحت تحب السهل، هل تريدون مني أن أقدم ما يريدون. ليسمعوا ما يشاءون، ومن حقي أنا أن أقدم ما أريد.
تسعى دائماً إلى التجديد في أعمالك وتدافع دائماً عما تسميه بخياراتك الحداثية، ما الذي قدمت هذه الخيارات لموسيقاك؟
- كثير من الأمور، كل شيء، لا أحب التحدث عن نفسي ولكن سأعطيك أبسط الأمور. حين أصبحت محكّماً في ستار أكاديمي، أصبح الجميع يقلدني في كل كلمة أقولها وفي طريقتي حتى لو لم يكن لديهم خلفية أو ثقافة أو تعليم في هذا الجانب. حتى في الغناء أنا أعتمد كل تكنيكات العالم، لا أحصر نفسي في جانب واحد. هذه هي طريقة عملي. أنا مختلف في كل شيء حتى في الموسيقى وطريقة التأليف الموسيقي المغاير تماماً. حتى المشاهد الدرامية في المسرح أفكاري فيها مختلفة.
أغنية «لازم أغيّر النظام»، الأغنية التي منعتها الدول العربية، تحوي كثيراً من المعاني والدعوات الصريحة والواضحة إلى كل الثورات الحاصلة الآن في الدول العربية، رغم ذلك تشير تصريحاتك المنشورة إلى أنك ضد ثورات الربيع العربي.
- لأنه فوضى، أنا تماماً ضد الأشياء التي لا تصل إلى نقطة، وما يحصل الآن فوضى. أنت تزيح أشخاص فقط لتحل محلهم ثم تتراجع للوراء. الإنسان يغير ليحسن الأشياء لا ليتراجع. ثم إنه وراء كل تغير تظهر موجات فنية وموجات حضارة جديدة مختلفة تماماً. يحدث تمرد على كل شيء لكن للأفضل. أميركا بعد الحرب قامت بنوع من التحديث لكل الأفكار الفنية وكذلك أوروبا التي ظهرت فيها فنون جديدة بعد حرب فيتنام. ولذا ليس من المعقول أن يكون الربيع العربي بهذه الفوضى التي نعيشها. الشعوب ضائعة ونتصارع فيما بيننا. من الواضح أن هنالك محرك سعيد بما يحدث من صراعات لأنه يضمن انشغالنا ببعضنا ويضمن ازدياد مبيعاته من السلاح. هذا أمر محزن لأن لدينا إمكانيات رائعة في العالم العربي وحرام أن تضيع. ليس لدينا أي وعي، كيف أصبحنا كذلك، ألم يتعلم أحد من حرب لبنان. هل نريد أن يحصل الأمر ذاته في باقي الدول العربية. أنا آسف لما يحدث. كل المشاكل تحل بالحوار وأنا ضد العنف.
هل تقول إن الشعوب العربية ليست جاهزة للحصول على حريتها والوصول إلى الديمقراطية؟
- كلا ليست جاهزة. ليس من الممكن إعطاء حرية لشعوب أفكارها بدائية لهذه الدرجة، يجب على الإنسان أن يكون واعياً وهو يحصل على حريته. يجب أن نحترم بعضنا ونحترم اختلافاتنا ونحترم محيط ومناخ وديانات وطوائف وأفكار وثقافة الآخرين. حريتي تنتهي عند ما تبدأ حريتك والعكس صحيح، لكن لا يمكن أن أفرض عليك حرية أو ديمقراطية معينة. هذا أمر محزن، جميعنا مع التغيير في كل العالم، لكن التغيير للأفضل لا للأسوأ، التمردة وليس الثورجة. الثورة تنتهي في المكتب، التمرد هو أن نتجدد دائماً وأن تطرأ على ذواتنا وأفكارنا كل المواسم والفصول، مثل غيفارا الذي رفض أن يبقى في المكتب وفضل أن ينتقل لثورة أخرى.
شخص مثلك بكل الإمكانات المتعددة التي يملكها والإرث الذي يحمله ما الذي يمكنك أن تقدمه ولو عبر الفن والموسيقى للعالم العربي وللبنان؟
- حالياً الوضع في لبنان سيء جداً، لكن لبنان لديه هذا التناقض الذي يجعله قوياً فليس هناك طائفة ضد طائفة بل إن الطوائف منقسمة فيما بعضها ضد أفكار معينة. أنا لا أحب كثيراً الفكر الديني الذي يجعلنا نتقاتل من أجله، فالله أنعم علينا بالأديان وكل إنسان يؤمن بالله ويحبه كما يريد ويجب ألا نتقاتل بحسب موقفنا من الله.
عشنا كذلك وتعودنا على ذلك فلماذا يريدون تغييرنا. عشنا في بلد موزاييك فيه 18 طائفة لا نعرف أن نعيش إلا بهذه الطريقة. ربما الإعلام العالمي يركز على أشياء معينة ويفرض على كل دين أو طائفة أو تشعب أن يتقوقعوا على أنفسهم ويصبحوا أكثر شراسة. العقول المسطحة غسلها الإعلام لذلك أنا أشعر بالتعاسة والحزن على العالم العربي. الموسيقى مهما فعلت لا تستطيع أن تفعل شيئاً إذا لم يكن هناك إرادة من الشعوب. نحتاج لمن يوعي الناس ويبعدها عن كل معاني التطرف في الأفكار. لا أريد أن يصل ما نعاني منه في لبنان إلى العالم العربي.
العدد 3864 - الجمعة 05 أبريل 2013م الموافق 24 جمادى الأولى 1434هـ